متى ينهار النظام الرأسمالي والإمبراطورية الأميركية؟ (المديونية) (3)
المسار الطويل والاتجاه البنيوي للنموذج الرأسمالي عموماً، والأميركي خصوصاً، يتجه إلى التدمير الذاتي من خلال عدة عناصر، من أهمها تفاقم المديونية عاماً بعد آخر.
إذا كانت أزمة عام 1929 في جوهرها أزمة طلب ترتب عليها تعثر المنشآت الإنتاجية وزيادة ديونها وتعثرها في السداد، ما انعكس أثره على سوق الأسهم والسندات في البورصات الأميركية، ومن ثم بداية مسلسل طويل وحزين من الانهيارات والإفلاس للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وبعده انتشار البطالة إلى الدرجة التي بدأ فيها مئات الآلاف من الأميركيين البحث عن الطعام في صناديق القمامة، فإن الأزمات الراهنة التي تكررت في العقود الأربعة الأخيرة بدأت في جوهرها كأزمة عرض في قطاع مالي تضخم، بحيث أصبح خارج نطاق السيطرة من جانب أجهزة الإشراف والتوجيه.
والحقيقة أن النظام الرأسمالي تعرض لدورات اقتصادية مستمرة، من مراحل الازدهار إلى فترة من التباطؤ، ثم حالة من الركود وصلت أحياناً إلى حالة الكساد، كما حدث عام 1929، وكما يجري حالياً.
وقد دفعت هذه الظاهرة خبراء الاقتصاد إلى تأملها والكتابة عنها فيما عرف في النظرية الاقتصادية بنظرية الدورات الاقتصادية. وقد تراوحت فترات الدورة عادة بين 10 أعوام و15 عاماً يجري بعدها تصحيح الوضع والأداء.
ظلت هذه النظرية القائمة على فكرة قانون "ساي" (say)، المعروف بمقولة مفادها أن العرض يخلق الطلب المساوي له، سائدة لسنوات طويلة، حتى حدث الكساد العظيم عام 1929، وأعاد جون ماينارد كينز تحليل أدوات النظرية الاقتصادية السائدة ومناهجها، واكتشف قانونه الجديد الخاص بالطلب الفعلي أو الطلب الفعال. والجديد الآن في حالتنا 3 عناصر جديدة:
الأول: تحول الولايات المتحدة من أكبر دائن إلى أكبر مدين في العالم.
الثاني: الإفراط في استخدام سلاح العقوبات وبروز منافسين أقوياء.
الثالث: تراجع الثقة لدى معظم دول العالم ودوائر المال والأعمال بالقدرة الاقتصادية والقدرة المالية، ومتانة الدولار الأميركي، ومدى عدالة أسواق المال والاستثمار، ومدى الضمانات المتاحة لاستثمارات وودائع الدول والمستثمرين الدوليين فيها.
الرابع: سقوط المنظومة القيمية والأخلاقية في النسق الاجتماعي العام.
فلنتناول كل واحدة بشيء من التفصيل.
أولاً: التحول إلى أكبر بلد مدين في العالم
يُعرف الدين العام الأميركي بأنه إجمالي الأموال التي تدين بها الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة لحملة صكوك الدين الأميركي. ويشمل الدين القومي الإجمالي مكوّنين:
1-الديون لدى العامة، مثل سندات الخزانة التي يحملها المستثمرون خارج الحكومة الفيدرالية، ومن بينهم: الأفراد، والمؤسسات، ونظام الاحتياط الفدرالي، والحكومات الأجنبية، والولايات المحلية.
2-ديون الحسابات الحكومية أو الدين الحكومي، وهو عبارة عن سندات الخزانة غير القابلة للتسويق ضمن حسابات البرامج التي تديرها الحكومة الفيدرالية (مثل صندوق ائتمان الضمان الاجتماعي)، وتمثل الديون التي تحتفظ بها الحسابات الحكومية التراكمية، بما في ذلك أرباح الفوائد، للبرامج الحكومية المختلفة التي تم استثمارها في سندات الخزانة.
وقد تزايدت الديون الحكومية نتيجة الإنفاق الحكومي والميل المفرط إلى العسكرة وعمليات الغزو والعدوان في مقابل الانخفاض في إيرادات الضرائب أو الإيرادات الأخرى، والتي تتقلب خلال العام المالي.
المحلل لنشأة الدين العام الأميركي وتطوره يكتشف العلاقة الطردية بين حروب هذه الدولة وتفاقم ديونها العامة؛ فقد بدأ الدين العام الأميركي أثناء حرب الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عام 1790، وأُعلن عن أول قيمة سنوية للدين العام، والتي بلغت 75.5 مليون دولار تقريباً، في كانون الثاني/يناير 1791.
وبعدها بسنوات قليلة (1796-1811)، تحقق 14 فائضاً في مقابل عجزين، ثم حدثت طفرة في الدين العام بسبب حرب عام 1812 ضد بريطانيا في مستعمراتها في أميركا الشمالية، ولكن في السنوات العشرين اللاحقة، تحقق 18 فائضاً، وسددت الولايات المتحدة ديونها بنسبة 99.97%.
ومع قيام الحرب الأهلية الأميركية (1860-1865)، عاد الدين العام الأميركي إلى الزيادة بصورة هائلة، ليزداد خلال 3 سنوات فقط من 65.0 مليون دولار عام 1860 إلى أن تجاوز مليار دولار عام 1863. وفي نهاية الحرب عام 1865، قفز هذا الدين العام إلى 2.7 مليار دولار.
وبعدها، ولمدة 47 عاماً، عادت الحكومة الأميركية لإدارة الفوائض في وقت السلم لتحقق 36 فائضاً و11 عجزاً فقط. وأثناء هذه الفترة، تم سداد 55% من هذه الديون. وبمجيء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، عاد الدين العام ليبرز من جديد بصورة قاسية، ووصل في نهايتها إلى 25.5 مليار دولار. وقد أعقبها تحقيق فائض وانخفاض إجمالي الدين بنسبة 36%.
وبسبب الكساد الكبير الذي أرخى بظلاله الكئيبة على الاقتصاد والمجتمع الأميركي طوال 5 سنوات (1929-1934)، والذي أوصل البلاد إلى حافة الكارثة من حيث: إفلاس آلاف المنشآت، وزيادة البطالة إلى ربع القوى العاملة تقريباً، وانتشار الفقر والمجاعة، انتهج الرئيس الأميركي من الحزب الديمقراطي تيودور روزفلت، ومن بعده الرئيس هاري ترومان، سياسة جديدة وغير تقليدية أطلق عليها الصفقة الجديدة، فسُنت برامج الإنفاق الحكومي الاجتماعية طوال الثلاثينيات والأربعينيات، ما أدى إلى أكبر زيادة في إجمالي الدين العام من 20.0 مليار دولار عام 1933 إلى 33.7 مليار دولار بحلول عام 1936، أي ما يعادل 40% من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام، ثم إلى 260 ملياراً عام 1950، ثم تضاعف الدين العام 3 مرات إلى نحو 909 مليار دولار عام 1980.
ومنذ ذلك التاريخ، تضاعفت القيمة الاسمية لصافي الدين العام 4 مرات أثناء رئاسة الرئيسين الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب خلال الفترة الممتدة من عام 1981 إلى 1992، إذ قارب 3.0 تريليون دولار عام 1992. وعام 2000، بلغ الدين العام الأميركي 3.4 تريليون.
ومع تولي الرئيس جورج بوش الابن -المندفع إلى الحرب والعدوان العسكري عام 2001، مصحوباً بكتلة من الصقور الجارحة في السياسة الأميركية أطلق عليها اسم المحافظين الجدد- السلطة، أخذ الإنفاق العسكري يتفاقم عاماً بعد عام، حتى بلغ الدين العام في نهاية حكمه في كانون الأول/ديسمبر 2008 نحو 10.7 تريليون، واستمر هكذا في التزايد حين تولى الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الحكم عام 2009 إلى 14.2 تريليون دولار في شباط/فبراير 2011، ثم إلى 20.0 تريليون دولار في نهاية حكمه عام 2017.
وبسبب جائحة كورونا، سن الكونغرس بطلب من الرئيس الجمهوري المتعصب دونالد ترامب قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي لفيروس كورونا في 18 آذار/مارس 2020، وقدرت لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة أن عجز الميزانية للسنة المالية 2020 سيصل إلى 3.8 تريليون، وسيضاف إلى الدين العام الأميركي.
وهكذا، وكما أشار الدكتور إبراهيم علوش، احتاج الدين العامّ الأميركي 9 سنوات ليقفز من 10 تريليونات دولار عام 2008 إلى 20 ترليون دولار عام 2017، ثم احتاج إلى 5 سنوات فحسب ليقفز بأكثر من 11 تريليوناً أخرى مع عام 2022، ويصل إلى 31.4 تريليون دولار.
وقد لا يمثل الدين العام للدولة مشكلة كبرى إذا كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي أسرع وأكبر من معدل نمو الدين العام للدولة، بيد أن المشكلة في الولايات المتحدة تعمقت أكثر فأكثر من جراء التناقض المتزايد بين المعدلين.
وإذا أخذنا بنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي GDP، لنبين مقدار وعمق مشكلة الدين وتأثيراتها الخطرة والضارة في الاقتصاد الأميركي من ناحية، وفي الاقتصاد العالمي من ناحية أخرى، فإننا نجد أن الدين العام الأميركي انخفض خلال عقد السبعينيات من 28% إلى 26% من الناتج المحلي الإجمالي، ثم خلال عقد الثمانينيات ارتفع إلى 41% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي التسعينيات، ارتفع أكثر ليصل إلى 50% من GDP.
وخلال السنوات الثماني الممتدة من عام 2000 حتى العام 2008، زاد إلى 62%. وفي نيسان/أبريل 2020، بلغ الدين العام الأميركي نحو 24.2 تريليون دولار. وقد توزع هذا الدين العام الأميركي بين الدين الفيدرالي المملوك للعامة (البالغ 18.2 تريليون دولار، إذ يمثل 79.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان نحو 37% منه مملوكاً للأجانب)، والدين الحكومي البالغ 6.0 تريليون دولار.
وخلال سنتين، منذ انتشار جائحة كوفيد 19 عام 2022، تجاوز الدين العام الأميركي ما قيمته الاسمية 31.4 تريليون دولار، وهو ما يمثل 135% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
وبهذا، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية أكبر مدين في العالم. ولولا امتلاكها ميزة طباعة ورقة الدولار المقبولة في نظم الدفع والمعاملات الدولية، لكانت قد أفلست منذ زمن طويل.
وبينما يحاول بعض المحللين الأميركيين والغربيين عموماً إرجاع ظاهرة تفاقم هذا الدين العام الأميركي منذ عام 2010 إلى سببين هما: الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت العالم عام 2008 من ناحية، وانتشار وباء وجائحة كورونا في الأعوام الثلاثة الممتدة من عام 2019 حتى 2022 من ناحية ثانية، فإنهم يتغاضون تماماً عن تفاقم الإنفاق العسكرى بصورة هائلة بدافع النزوع العسكري والعدواني الأميركي والغربي عموماً بدءاً من عام 2001 حتى الآن.
ولم يكن الأمر يحتاج أن تقوم مؤسسة "فيتش" للتصنيف الائتماني بخفض درجة الولايات المتحدة في أواخر شهر آب/أغسطس 2023 إلى درجة AA+ لكي يعرف الجميع أن الاقتصاد الأميركي على حافة الانهيار، وهو ما أثار غضب الدوائر المسؤولة في الولايات المتحدة.
ويستخلص المحلل المدقق من هذا الكلام أن المسار الطويل والاتجاه البنيوي أو الهيكلي لهذا النموذج الرأسمالي عموماً، والأميركي خصوصاً، يتجه إلى التدمير الذاتي من خلال عدة عناصر، من أهمها تفاقم المديونية عاماً بعد آخر، إلى جانب عوامل أخرى سوف نتحدث عنها في المقالات التالية.