مخاطر "التعاون" المصري - الإسرائيلي على الأمن القومي العربي (2-4)
أدت السياسات المتَّبَعة طوال 50 عاماً في مصر إلى استفحال مصادر الخطر والتهديد، وليس العكس، على نحو أضعف ميزان القوة المصرية في الصراع الإقليمي الدائر، والمتوقع أن يطاولها رصاصه وربما قذائفه النووية في المستقبل.
-
مخاطر "التعاون" المصري - الإسرائيلي على الأمن القومي العربي.. مفهوم الأمن القومي للدولة
دائماً كان الرؤساء السابقون والحاليون لمصر يهاجمون خصومهم السياسيين، واصفين إياهم بأنهم يعادون "المصالح القومية" لمصر (الرئيس الأسبق أنور السادات)، من دون أن يكون هناك معنى وتحديد علميان دقيقان لهذا المصطلح في علوم الأمن القومي، بحيث بدا، مع كثرة تكراره، أنه تماهى مع الرغبات والطموحات والسياسات والقرارات للرئيس السادات نفسه. ومن هنا، أصبح في منظور الإعلام الرسمي أن كل من يعارض الرئيس السادات أو قراراته هو بمثابة عدو للمصالح القومية المصرية.
بالمثل، حينما يعارض كثيرون - من الخبراء والدارسين للاقتصاد وعلوم المالية العامة - السياسات الضارة والمتعلقة بالاقتراض من الخارج والداخل، يُصنَّفون بأنهم "أهل الشرّ".
من هنا، يجب تحليل الشق الثاني من نظرية الأمن القومي للدول، والتي في ضوئها تُرسم ليس فقط سياسات الدفاع عند الدولة فحسب، وإنما سياساتها الدبلوماسية والدولية أيضاً.
اقرأ أيضاً: مخاطر "التعاون" المصري-الإسرائيلي على الأمن القومي العربي (1-4)
ثانيا: تحديد مصادر الخطر والتهديدات المحيطة بمصر، والتعامل معها
كما سبق أن أشرنا، فإن العنصر الثاني في كفة ميزان نظرية الأمن القومي للدولة هو تحديد مصادر الخطر والتهديدات المحيطة بالدولة، والتعامل معها، في كل أبعادها، ومستوياتها، ومصادرها، فمن ناحية:
- قد يكون الخطر قائماً وآنياً.
- وقد يكون الخطر محتملاً أو متوقَّعاً.
- وقد يكون مجرد تهديدات قائمة،
- أو تهديدات محتملة.
من هنا، لا بد من تحديد طبيعة تلك المخاطر والتهديدات:
- هل هي خطر ذو طبيعة عسكرية، أم تهديد لحدود الدولة السياسية، ومن أي الاتجاهات والمحاور.
- هل هي خطر غير مباشر، يتّخذ وسائل العمل غير المباشر (مثل التجسس والتخريب) أسلوبه وآلياته.
وهي كلها ترتّب اتخاذ مجموعة من السياسات والإجراءات الدفاعية أو الوقائية أو الردعية، وأخيراً الأعمال التعرضية (الهجومية).
في حالتنا المصرية، لقد أدت السياسات المتَّبَعة طوال 50 عاماً إلى استفحال مصادر الخطر والتهديد، وليس العكس، على نحو أضعف ميزان قوتنا في الصراع الإقليمي الدائر حولنا، والمتوقع أن يطاولنا رصاصه وربما قذائفه النووية في المستقبل. كيف؟
1- إذا كان من الصحيح والثابت القول إن الرئيس حسني مبارك ورث عن سَلَفه (الرئيس أنور السادات) اتفاقيتي: "كامب ديفيد" (أيلول/سبتمبر 1978)، و"السلام" المصرية الإسرائيلية (آذار/مارس 1979)، مع كل ما ترتَّب عليهما من قيود والتزامات شديدة الوطأة على الإرادة السياسية والعسكرية المصرية (مناطق منزوعة السلاح في معظم سيناء – قيود على تحركات القوات المصرية فيها – قيود على تغيير في مسارح العمليات الشرقية... إلخ)، فإن مقتضيات الحصافة وبُعد النظر الاستراتيجي كانت تتطلب حصار نفوذ "كامب ديفيد" ونهجه السلبيَّين، وعدم الاندفاع أكثر إلى إلزام مصر بقيود إضافية.
وحاول الرئيس حسني مبارك، في أوائل عهده، أن يروّج، بين قوى المعارضة "المستأنسة" في مصر وفي بعض الحكومات العربية، أن "كامب ديفيد" ماتت، فراح البعض من المعارضين في مصر وفي حكومات بعض الدول العربية يروّج هذه الفكرة من أجل إعادة النظام المصري الجديد إلى جامعة الدول العربية ومنظومات العمل العربي المشترك، وفي ظل أكبر خديعة استراتيجية قام بها الرئيس المصري الجديد (مبارك)، بحيث نجح هو في توريطهم، واحداً بعد الآخر، في المشاركة في نهج "كامب ديفيد"، ثم أضاف الرجل قيوداً جديدة على مصر والعرب، تمثّلت بـ:
(أ) تنسيق الجهد المعلوماتي - الاستخباري المصري وربطه بالنشاطين الاستخباريَّين الأميركي والإسرائيلي (السي آي أيه – أف بي آي- الموساد – الشين بيت – الشاباك) عبر التعاون فيما سُمِّي "مواجهة حركات التطرف في فلسطين ومصر وسائر المنطقة العربية"، ومن خلال رعاية أميركية بدت مكشوفة، عبر حضور وزيرة خارجيتها (كونداليزا رايس) وترؤسها اجتماع قادة أجهزة الاستخبارات العربية للدول (مصر – الأردن – السعودية – الإمارات – البحرين وغيرها) في سابقة غير معهودة ولا معروفة في العلاقات الدولية، بحيث جرى تدشين غرفة عمليات استخبارية سوداء في مواجهة ما سُمِّي "التطرف"، وكان المقصود بالطبع قوى المقاومة العربية الجديدة، في لبنان وفلسطين والعراق، وأيضاً في مواجهة " إيران " وسوريا. وزاد الأمر سوءاً أن تحولت بعض العواصم العربية (القاهرة – الرباط – عمّان – الخرطوم) إلى مسالخ تعذيب لمصلحة استنطاق المعتقلين الذين تقوم القوات الأميركية في أفغانستان وفي غيرها باعتقالهم.
(ب) ربط قطاعات حيوية من الصناعة المصرية (الغزل والنسيج والملابس الجاهزة) بالصناعات الإسرائيلية، وتحت مظلة أميركية فيما سمي مشروع "المناطق الصناعية المؤهلة"، أو الكويز quiz، والذي قد يحقق بعض الأرباح المالية والاقتصادية لبعض رجال المال والأعمال في مصر، لكنه يمثّل ضرراً فادحاً للصناعة المصرية في الأجلين: المتوسط والطويل، بالإضافة إلى التأثير سلباً في مركز مصر الإقليمي، ويشجع أطرافاً عربية خليجية على التوغل في تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية مع هذا الكيان العنصري المعادي، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك فيما سُمِّي الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020.
(ج) الاندفاع المتكرر منذ عام 1982 إلى إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع قوات الولايات المتحدة الأميركية سنوياً فيما سُمّي "مناورات النجم الساطع"، على نحو ساعد القوات الأميركية على دراسة الطابع الطبوغرافي لمسارح العمليات العربية المرتقبة، والتعامل معه، وهو ما مهّد وساعد هذه القوات على اجتياح العراق واحتلاله بعد أقل من 10 أعوام على هذه المناورات، كما فتح هذا السلوك المصري، تحت قيادة هذا الرئيس (مبارك)، الطريق أمام سائر الدول العربية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لتنظيم مناورات مشتركة مع قوات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، اتخذت عناوين شتى، منها التدريب على مكافحة ما يسمى الإرهاب.
2- إذا كانت مقتضيات الأمن القومي لمصر تقتضي المحافظة على جاهزية القوات المسلحة وتطوير أسلحتها ومعداتها وأساليب عملها وتكتيكاتها، على نحو يتيح لها فعّالية القيام بواجباتها الدفاعية أو التعرضية (الهجومية) وفقاً للظروف، ومواجهة المخاطر والتهديدات من أي محور من محاور الخطر والتهديد، فإن هذه المصلحة تتنافى تماماً مع انفراد طرف دولي واحد – تقريباً – بتوريد السلاح الرئيس إلى مصر (مثل الطائرات والدبابات، ومنظومات الرادار والدفاع الجوي، ومنظومات القيادة والسيطرة وغيرها)، نظراً إلى الارتباط العضوي بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ولا يحتجّ أحد بأن توقيع اتفاقية "سلام" بين مصر و"إسرائيل" منذ عام 1978 ألغى أن "إسرائيل" هي المصدر الرئيس للخطر، والمكمن الحقيقي للتهديد، الذي على أساسه ما زالت القوات المسلحة المصرية تضع خرائط عملياتها وتجهّز مسارح تلك العمليات، ثم تَمّ استسهال المعونة العسكرية الأميركية والإدمان عليها، منذ عام 1979 (والتي تبلغ سنويا نحو 1300 مليون دولار)، والتي على أساسها يجرى تجديد الأسلحة والمعدات، وتُعَدّ مخازن قطع الغيار والذخيرة، على نحو يجعل القوات المسلحة المصرية عرضة للموقف نفسه الذي تعرضت له الجيوش العربية في حزيران/يونيو 1948، بعد أن فرض الغرب الهدنة الأولى على العرب، بحيث فرغت مخازن أسلحتهم، وفُرض عليهم حظر شامل لتوريد السلاح والذخيرة من مصدرها الوحيد (بريطانيا)، في الوقت الذي كانت أوروبا كلها تقريباً أقامت ما يشبه جسراً لتوريد أحدث الأسلحة إلى العصابات الصهيونية في فلسطين، فانقلبت موازين القوى العسكرية في الجولة الثانية لغير مصلحة العرب، وحدثت الهزيمة العربية في تلك الحرب.
ولا شكّ في أن صانع القرار في مصر – أياً كان في الحاضر أو المستقبل – سوف يجد نفسه أمام خيارات مستحيلة لمواجهة أي عدوان إسرائيلي جديد على مصر، فإمّا أن يتجنب هذه الحرب ويقدّم التنازلات المطلوبة إلى "إسرائيل"، وإمّا يتعرض لهزيمة ساحقة، لأن ظهيره من مورد الأسلحة الأميركية لن يُسعفه أبداً. إنها أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها الرئيس حسني مبارك وسلَفه الرئيس السادات، وما زالت جارية حتى اليوم، وسوف ندفع ثمنها غالياً في المستقبل، سواء نحن أو أولادنا من بعدنا.
3- إن مقتضيات الأمن القومي المصري تتطلب باستمرار – حتى في ظل ما يسمى قيود اتفاقيات كامب ديفيد – الحرص على التقويض والإضعاف لقوة "إسرائيل" ونفوذها في المنطقة، بل العمل الحثيث، عبر وسائل العمل غير المباشرة على تفتيتها وفك برنامجها النووي الخطير، ثم القيام بالدعم الصامت والهادئ لقوى المقاومة العربية إزاءها.
من هنا، فإن الموقف الذي اتخذه الرؤساء، في أثناء العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان عام 1978، وعلى الضفة الغربية وغزة في نيسان/أبريل 2002، وحصار القيادة الفلسطينية في رام الله (ياسر عرفات)، والمساندة العلنية والتغطية السياسية التي قام بها الرئيس حسني مبارك وملكا السعودية والأردن للعدوان الإسرائيلي ضد لبنان وحزب الله في تموز/يوليو 2006، ثم الاستمرار في هذا النهج في أثناء حصار الفلسطينيين والمقاومة في قطاع غزة مدة عامين كاملين، والذهاب إلى حد المساهمة في فرض هذا الحصار وإغلاق معبر رفح، على نحو تسبب بوفاة أكثر من 250 مريضاً فلسطينياً بسبب الحصار وإغلاق المعبر المصري في وجوههم، وكذلك المساهمة في مساندة تيار "أبي مازن ومحمد دحلان" الموالي للمشروع الإسرائيلي - الأميركي والراغب في تصفية القضية الفلسطينية – وليس حلها –؛ كل هذه السياسات هي عناصر مدمِّرة ومخرِّبة للأمن القومي المصري، ومعززة في المقابل لهيمنة "إسرائيل" ونفوذها في المنطقة العربية، علاوة على ما خلّفته من حساسيات عدائية وضارة بين الشعوب العربية ومصر، وهي مشاعر ستظل ساكنة في الوجدان العربي عقوداً طويلة، وسوف نجني نحن قبل غيرنا ثمارها المرة (أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض).
والآن، إذا كان هذا هو حال الأمن القومي المصري في أعقاب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وما سببته من انكشاف استراتيجي شامل للمنطقة العربية أمام المخاطر المحيطة بها من الكيان الإسرائيلي المدعوم أميركياً وأوروبياً، فكيف انعكس ذلك على مجالات التعاون بين الحكم في مصر وهذا الكيان طوال الأعوام الماضية؟
وكيف أثّر استبدال التعاون مع الكيان الإسرائيلي في أمن مصر الوطني، وفي الأمن القومي العربي؟