هل أخطأ الإسرائيليون الحساب؟

ماذا لو انتقلنا إلى فرضية أسوأ الأحوال بالنسبة إلى "إسرائيل"؟ حرب متعددة الجبهات؟ جولة تستمر أكثر مما يمكن أن تتحمّله؟ تكرار لـ"سيف القدس" بنسخة جديدة؟

  • هل أخطأ الإسرائيليون الحساب؟
    هل أخطأ الإسرائيليون الحساب؟

بدأ رد المقاومة الفلسطينية أخيراً بعد أن وضعت الطرف الإسرائيلي في حالة انتظار وإرباك. بتنا نعلم كيف بدأ وأين، لكن لا أحد يعلم متى ينتهي وكيف؟

الضربة الغادرة التي تعرّض لها ثلاثة من قادة "الجهاد الإسلامي"، رغم الضمانات الأمنية، ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة. معظم الجولات القتالية التي خاضتها غزة استُهل بعمليات اغتيال طالت كوادر عسكرية في المقاومة:

عدوان عام 2012 بدأ باغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري.

عدوان عام 2014 اندلع بعد اغتيال 6 من أعضاء حركة حماس، زعمت "إسرائيل" أنهم كانوا وراء اختطاف 3 مستوطنين في الضفة الغربية وقتلهم، في عملية جاءت رداً على اختطاف مستوطنين الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير وتعذيبه وقتله حرقاً.

جولة عام 2019 بدأت باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس بهاء أبو العطا.

أما معركة "وحدة الساحات" عام 2022، فقد بدأت بعدما اغتالت "إسرائيل" قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس تيسير الجعبري.

ليس أقل من 6 جولات قتالية خاضتها غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي منها عام 2005. خلال عامي 2008 و2009، وضعت "إسرائيل" للحرب التي شنّتها هدفاً اقتضى "إنهاء حكم حركة حماس في القطاع"، والقضاء على المقاومة، ومنعها من قصف الكيان بالصواريخ. كان هناك هدف إضافي هو الوصول إلى المكان الذي تخبئ فيه المقاومة الأسير جلعاد شاليط.

أخفقت "إسرائيل" في تحقيق الهدفين معاً، وأخفقت أيضاً في باقي حروبها المذكورة آنفاً. عملياً، لم تؤدِّ كلّ الخطوات والعمليات والسياسات التي اعتمدتها منذ عام 2005 إلى تحقيق أي نتائج إستراتيجية. لم تكسر شوكة المقاومة أو تضعف عزيمتها، ولم تمنع مراكمة المزيد من الأسلحة وتنامي القدرات وتعاقب أجيال وقيادات جديدة ليست أقل تصميماً وإرادة على مواصلة القتال. 

لماذا هذا الأمر مهم؟

عندما اتخذت حكومة أرييل شارون قرار الانسحاب من قطاع غزة أطلقت عليه تعبيراً مُلطفاً عنوانه "خطة فك الارتباط أحادي الجانب". تم إخلاء 21 مستوطنة كانت تحتل نحو 35% من مساحة قطاع. 

لم يكن "فكّ الارتباط" سوى انسحاب نتيجة الكلفة التي تكبدها الاحتلال تحت ضغط المقاومة. وُسم هذا الحدث بالتاريخي، لأن "إسرائيل" لم يسبق أن أخلت بالقوة أراضي استولت عليها في فلسطين منذ احتلالها عام 1948.

قبل أيام، عالج الكاتب الإسرائيلي أمنون لورد هذا الانسحاب في صحيفة "إسرائيل هيوم". قال إن "الجيش الإسرائيلي لم يفك الارتباط عن غزة فقط، بل أيضاً عن الثقافة العسكرية التي تأسّس عليها"؛ ثقافة تقوم، وفق تعبيره، على أنه سيكون قادراً على إنجاز المهمة إلى آخرها ضمن الإصرار على الهدف والوصول إلى حسم، ومن المحبذ أن يكون سريعاً.

حاولت "إسرائيل" التعويض عن هذا الانسحاب من خلال فرض حصار خانق على القطاع على أمل تطويعه. فشل الحصار، كما الحروب، في تيئيس المقاومة أو إخضاعها، رغم قواعد الردع التي فرضتها بحكم تفوّق قوتها العسكرية.

المغزى من كل هذا أن المقاومة في غزة، كما في عموم فلسطين، تعمل في ظل ظروف بالغة الصعوبة. رغم ذلك، تواصل القتال وتحقيق الإنجازات. 

يعدّ قطاع غزة من أكثر المناطق كثافةً سكانية في العالم. يقطنه نحو مليوني فلسطيني على مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً. طبيعته الطوبوغرافية المسطّحة ومساحته المحدودة مطوّقة بجدران وصحراء وبحر. عملية الرصد والمراقبة المستمرة تجعل المناورة فيه أمراً عسيراً. رغم كل ذلك، لم تتراجع عزيمته، وما زال يشاغل العدو ويربكه.

ضربات على الرأس

هذه الصعوبة في غزة لا تقلّ عنها مثيلتها في الضفة الغربية المُطوقة بالمستوطنات، والمُحاطة بكل أنواع الاستخبارات والمراقبة والتعقب. لا يسلم أيّ منفّذ عملية هناك تقريباً من أن تصل إليه في نهاية المطاف الأيدي الإسرائيلية. تتباهى "إسرائيل" بذلك، فيما الأحرى أن ينال وسام الشرف من يخرج إلى أي عملية استشهادياً، ولو عاد منها سالماً. كلفة هذه المبادرات الفدائية لا تتوقف هنا، إذ يتبعها انتقام لاحق تنفّذه قوات الاحتلال على شكل هدم بيوت الفدائيين بهدف ردع الآخرين.

رغم كلّ الأكلاف، فإن معطيات "جيش" الاحتلال تفيد بأن أكثر من 100 فلسطيني استشهد بنيران إسرائيلية منذ مطلع السنة. تنقل الصحافة الإسرائيلية عن المؤسسة الأمنية تقديرها أن نحو 90% من هؤلاء فدائيون. العدد كبير قياساً إلى العام الماضي الذي كان عام ذروةٍ في عدد الضحايا الفلسطينيين في السنوات الأخيرة. ما لا يقلّ أهمية هو وجود تقديرات أمنية في "إسرائيل" تفيد بأن المنحى نفسه سيستمر في الأشهر القريبة المقبلة في الضفة الغربية.

يُخطئ من يتوقع من المقاومة في غزة أو في الضفة الغربية وعموم فلسطين الـ48 رداً تماثلياً على العدوان وجداراً من الردع يشبه ذلك القائم بين الكيان الإسرائيلي ولبنان. ليس هذه الحال في فلسطين، ولم تكن هكذا في يوم من الأيام.

صعوبة عمل المقاومة داخل فلسطين تنبع قبل كل شيء من كونها تعمل جغرافياً من داخل المشروع الصهيوني. هذا بحد ذاته يخلق مجموعةً معقّدةً من العوائق والصعوبات. نحن أمام جيش مدجّج بأحدث الأسلحة والتقنيات والقدرات العسكرية والاستخبارية في مقابل بقع جغرافية محاصرة ومطوّقة يتم رصدها من كثب بأساليب مختلفة تقنية وبشرية على مدار الساعة. 

لكن هذه الظروف تتيح فرصاً، كما تشكّل تحديات، باعتبار أن المقاومة تعمل وعلى مقربة من الاحتلال، وفي قلب مشروعه، وكل ضربة تسددها لها وقع مختلف من ناحية الجدوى والفعالية وتمثل ضربة على الرأس.

مؤشرات ودلالات

القضية إذاً ليست قضية أرقام؛ قتيل في مقابل شهيد أو جريح في مقابل جريح. لا يسمح ميزان القوى في فلسطين بهذه الترف "الفنتازي". الأرقام رغم ذلك ليست صامتة، وتتحوّل إلى مؤشرات دالة إذا ما تم استعراضها بطريقة أو بأخرى.

لنأخذ غزة مثالاً:

خلال حرب عامي 2008- 2009 التي استمرت 23 يوماً، استُشهد أكثر من 1430 فلسطينياً. بدوره، اعترف الاحتلال بمقتل 13 إسرائيلياً، بينهم 10 جنود.

خلال عدوان 2012، استشهد نحو 180 فلسطينياً، في حين قتل 20 إسرائيلياً.

خلال حرب 2014 التي استمرت 51 يوماً، استُشهد أكثر من 2300 فلسطيني، وجرح نحو 11 ألفاً، في حين قتل 68 جندياً إسرائيلياً و4 مستوطنين.

عام 2019، استشهاد 34 فلسطينياً، وجرح أكثر من 100 آخرين.

خلال معركة "سيف القدس" عام 2021، استشهد نحو 250 فلسطينياً، وجُرح أكثر من 5 آلاف، في حين قُتل 12 إسرائيلياً.

أما عام 2022، فقد بلغ عدد الشهداء 24، في حين أُصيب 203 بجروح مختلفة.

إلامَ يؤشر ذلك؟

بينما تعمل "إسرائيل" على محاولة سحق المقاومة واستئصال روح النضال من الشعب الفلسطيني، تعمل المقاومة على جعل الاحتلال يتكبّد أثماناً في أمنه ورفاهيته واقتصاده، وتضربه في الخاصرة الرخوة. ليس هذا إلا نموذجاً عن الحرب غير التماثلية. الكلفة هي ما تسعى المقاومة لتكبيدها للاحتلال، فيما يعمل الأخير على أن يجعل كلفة المقاومة عالية في المقابل. 

إن دلّت الأرقام الآنفة على شيء، فإنها توضح أن حرب الأكلاف بين الطرفين تتعدى إطار ترسيخ قواعد الردع. تتجاوز ذلك إلى حرب إرادات يصبح فيها العامل الحاسم هو قدرة كل طرف على التحمّل.

هذا المعطى الشديد الأهمية يستحضره محلل الشؤون العربية في إذاعة "جيش" الاحتلال جاكي حوغي في حديثه عمّا يطلق عليه "مفارقة غزة". ملخص كلامه أن الفصائل في غزة تعلم جيداً أن "جيش" الاحتلال لديه تفوق ساحق عليها، وتعلم أيضاً أن موازين القوى هذه لن تتغير لمصلحتها في المستقبل المنظور. وبينما تعتقد "إسرائيل"، بحسب الكاتب، أن الضربات التي تُنزلها بالفصائل تضعفها، فإنها تجد صعوبة في فهم أنها تقويها فقط. 

يقدّرون جيداً

يشرح حوغي وجهة نظره بالتفصيل: صحيح أن الفصائل تخرج من كل جولة مكلومة، لكنها تستمد تشجيعاً كبيراً من وقوفها بوجه عدو غير عادي يعدّ نفسه أحد أكثر الجيوش تطوراً في العالم، وهي تقصفه و"تخربط" روتين جبهته الداخلية. 

ويشير حوغي إلى أن الوجبة النارية التي يُنزلها الإسرائيلي بفصائل المقاومة مؤلمة كل مرة، لكنها منظمات نضال، والتضحية هي سبب وجودها. من هنا، فإن خسارة الأرواح والدمار هي بالنسبة إليها ثمن من المناسب دفعه إلى استنزاف العدو.

لهذا السبب، في رأيه، تبقى المقاومة واقفة على قدميها، ويُضاف مدماك آخر إلى ثقتها بنفسها، وتتعزز من مواجهة إلى أخرى. هذا ما حصل بالضبط مع حزب الله بحسب ما يشير: "مع كل مواجهة تلقّى فيها ناراً وكبريتاً ودفع أرواحاً، خرج منها أقوى مما دخل فيها". 

من هنا، يوضح الكاتب، في مقاله المنشور قبل عملية اغتيال قادة الجهاد الإسلامي، أن "إسرائيل"، حتى لو توجّهت إلى اغتيال مسؤولين فلسطينيين، لن تحقق حسماً مهماً، وسيكون المزيد من الشيء نفسه. 

محلل الشؤون العسكرية في "هآرتس" عاموس هرئيل يشير إلى شيء من هذا القبيل. عندما تنتهي العملية الحالية، واسمها الإسرائيلي "درع وسهم"، من المشكوك فيه، بحسب رأيه، أن يحدث ذلك تغييراً مهماً في الوضع بقطاع غزة. 

يقول إن "إسرائيل"، كما في اختيار أسماء العمليات، استنفدت مخزون الإبداع، كما يبدو، فيما خص الحلول الإستراتيجية في القطاع، ويضيف: "مرة كلّ سنة تقريباً، تبدأ عملية عسكرية هناك. وعندما تنتهي، غزة تكون غزة نفسها". 

تقديرات بحاجة إلى تحديث

تبدو آراء الصحافيين الإسرائيليين الواردة آنفاً قريبة جداً من الواقع الذي تؤكده الأحداث التي تعاقبت على غزة منذ عام 2005، لكنها مع ذلك تحتاج إلى تحديث. في أحسن الأحوال، يمكن أن يصحّ المنطق الذي يقف خلف هذا السرد ويسري على هذه الجولة، لكنّه رغم ذلك سرد كلاسيكي ينتمي إلى مرحلة ما قبل "سيف القدس" و"الجبهات المتعددة" و"شتاء إسرائيل".

ماذا لو انتقلنا إلى فرضية أسوأ الأحوال بالنسبة إلى "إسرائيل"؟ حرب متعددة الجبهات؟ جولة تستمر أكثر مما يمكن أن تتحمّله؟ تكرار لـ"سيف القدس" بنسخة جديدة وقلب السحر على الساحر؟ قواعد ردع جديدة تؤدي إلى نتائج معاكسة للأهداف التي خرجت من أجل تحقيقها المستويات السياسية والأمنية داخل الكيان؟

كل هذا رهن بما تعدّ له المقاومة الفلسطينية، وخلفها محور القدس، في الساعات والأيام المقبلة. بدأ الرد، والحرب سجال. 

الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية تعلن عن تنفيذ عملية "ثأر الأحرار" بتوجيه ضربات صاروخية كبيرة لمواقع ومستوطنات الاحتلال، وذلك رداً على جريمة اغتيال قادة سرايا القدس.