الاقتراب الموزّع... ثأر الأحرار نموذجاً
قبل اندلاع معركة "ثأر الأحرار"، كان التصعيد يتزايد يوماً بعد يوم، ووصل إلى قمته عقب انطلاق صواريخ من لبنان باتجاه مستوطنات الشمال.
-
واقع التنسيق الكبير بين الفصائل الفلسطينية فرض على العدو سياسة الفصل بينهما
هدفت الأيام القتالية الأخيرة التي أقدمت على افتعالها حكومة الكيان المؤقت مع فصائل المقاومة في قطاع غزة، إلى ترميم التصدّع السياسي الداخلي وترميم الردع المتأكّل أمام محور المقاومة، وإضافة إلى ما تقدّم، عمد العدو الإسرائيلي خلالها-درع وسهم-إلى الفصل بين الفصائل الفلسطينية وتحديداً بين حماس والجهاد الإسلامي.
مؤخراً، لم تعد الحروب التي يشنّها العدو على قطاع غزة مشابهةً لما كانت عليه في الأمس، أي كما كان يجري قبل معركة "سيف القدس"، إذ إن الأخيرة أفهمت العدو مدى قدرة المقاومة على الصمود وإلحاق الضرر بالعدو، بعدما أظهرت المقاومة خلالها مستوى قدراتها الصاروخية وجاهزيتها العالية للمواجهة، والأكثر إيلاماً-للعدو-كان التنسيق العالي بين الفصائل في القطاع.
وعليه أمسى الكيان أمام واقع جديد دفعه إلى تغيير خطته في التعامل مع القطاع والذهاب نحو أسلوب "الأيام القتالية" والمستهدفة بشكل خاص لفصيل بمعزل عن الآخرين، كما جرى في خلال مواجهة "وحدة الساحات" العام الماضي، واليوم معركة "ثأر الأحرار".
واقع التنسيق الكبير بين الفصائل الفلسطينية وبشكل خاص بين حماس والجهاد الإسلامي، فرض على العدو سياسة الفصل بينهما، على قاعدة "فرق تسد"، إذ إن هذه السياسة لا يترتّب عليها الوصول إلى حرب شاملة مع الفصائل، وتضعف الجهة المستهدفة بسبب التركيز المباشر عليها، وتقلل الخسائر لدى العدو، "سياسة الفصل".
في الـ 11 من أيار/مايو وخلال معركة "ثأر الأحرار" قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "من يُطلق الصواريخ علينا هي حركة الجهاد الإسلامي، ونحن لا نرى أي إطلاق من حماس حتى اللحظة، ونُركّز هجماتنا فقط على من يُطلق الصواريخ علينا وهو الجهاد الإسلامي".
يمكن القول، بأن العدو الإسرائيلي من خلال مواجهته الأخيرة مع قطاع غزة أراد إيجاد حلّ لاستراتيجية "الاقتراب الموزّع" لدى محور المقاومة، التي أثبتت أنها صعبة الاختراق وأنها تزداد قوة وصلابة خلال وبعد كل معركة نتيجة التنسيق الدائم والعلاقة التفاعلية بين أضلاع المحور.
"الاقتراب الموزّع"؛ مفهوم يقارب تفسير سلوك محور المقاومة في الاستجابة للتحديات وبشكل خاص في المواجهات العسكرية، ويوضح كلّ ما هو مبهم عن تدخّل المحور خلال المواجهات، عن انفراد أحد أضلاع المحور في المواجهة، أو التدخّل المباشر لطرف إلى جانب آخر، أو التدخّل في المواجهة لكن بأسلوب مختلف. وجميعها تكتيكات مدروسة تفيد الطرف المعني بالمواجهة بحسب الظرف وطبيعة المعركة، و"ثأر الأحرار"، كانت مثالاً واضحاً على الاقتراب الموزّع.
الردع النموذجي
قبل اندلاع معركة "ثأر الأحرار"، كان التصعيد يتزايد يوماً بعد يوم، ووصل إلى قمته عقب انطلاق صواريخ من لبنان باتجاه مستوطنات الشمال. كثرت حينها التحليلات في الداخل الإسرائيلي والتي اختلفت بين من يتهم حزب الله بإطلاق الصواريخ وبين أخرى تتهم حماس، وبعضهم قال إن حماس أطلقت الصواريخ بموافقة من حزب الله.
لم يردّ الإسرائيلي على من استهدف مستوطناته واكتفى بالرد الموضعي على مكان إطلاق الصواريخ، لكن وبعد العملية بدأت التصريحات التي تلمّح لعملية اغتيال بدأ التحضير لها وبشكل خاص طالت القيادي في الجهاد الإسلامي صالح العاروري.
أعقب هذا الجو من التلميح والتهديد، خطاب للأمين العام لحزب السيد حسن نصر الله، ذكّر فيه العدو بما ثبّته سابقاً من معادلة تقتضي بأنّ أيّ مسّ بقيادي فلسطيني في لبنان سيُقابل بردّ عنيف. وبهذا التهديد ارتدع العدو عن القيام بأيّ خطوة ضد القادة الفلسطينيين في لبنان، وبالتالي استفادت الفصائل من المعادلة اللبنانية وهو ما يسمى في استراتيجية الاقتراب الموزّع؛ "الردع النموذجي".
تراكم الخبرة
نفّذ العدو غاراته الجوية على قطاع غزة واغتال ثلاثة قادة من الجهاد الإسلامي، وتعد هذه العملية استكمالاً لما قام به العام الماضي حينما اغتال القياديين تيسير الجعبري وخالد منصور، بهدف إقصاء الجهاد عن الصراع، معتمداً على عنصر المباغتة في الاغتيال لإعاقة وتحجيم ردة الفعل على العملية، ولكن وبعد الاستهداف الأخير أظهر الجهاد تعاطياً مختلفاً مع العملية، جعل الإسرائيلي يقف ساعات على "قدم واحدة"، وبصمت تكتيكي أخلى مستوطنات الغلاف من قاطنيها.
ثمانٍ وثلاثون ساعة مضت من دون أي تصريح. لم تستجب المقاومة الفلسطينية لما حاول الاحتلال جرّها إليه، ما جعل كل الأجهزة الإسرائيلية مربكة غير قادرة على تحديد طبيعة الرد وتوقيته، ودفعت الآلاف من المستوطنين إلى دخول الملاجئ أو الهرب من مستوطناتهم نحو الداخل.
صمت ليس وليد لحظة ضعف أو صدمة، بل هو نتيجة معرفة مسبقة بكيفية التعامل مع هذا العدو، أي تراكم خبرة في تكبيده أكبر قدر ممكن من الخسائر، ومن دون أن تفتح مخازن الصواريخ كان الصمت هو الأسرع في تجاوز غزة، ليجعل من الغلاف المحيط غلاف موت غير قابل للحياة.
ليست هذه المرة الأولى التي يقف فيها العدو على قدم واحدة، ففي لبنان سابقاً فعلها عقب استشهاد أحد عناصر حزب الله في سوريا محمد محسن بغارة على سوريا، وذلك بعدما توعّد الأمين العام للحزب بالرد وأنه سيجعل العدو يقف على "إجر ونص"، وقد نجح هذا القتل الناعم في إرباك العدو طيلة ساعات.
وفي "ثأر الأحرار"، ظهرت المقاومة بعد هذا السكوت على أنها المتقدّمة في حرب الأدمغة وأن الممسك بزمام تطوّر الأحداث هي لا العدو، ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى تكرار اعتداءاته على القطاع بهدف دفع المقاومة إلى الرد سريعاً بسبب عدم القدرة على تحمّل هذا الصمت القاتل أكثر.
يتناقل محور المقاومة، خبراته المكتسبة فيما بينه، ويدرك جيداً وقت ومكان استخدامها، وهو عنصر مهم في استراتيجية الاقتراب الموزّع، يسمى "تراكم الخبرة".
إثبات القدرة
أطلقت فصائل المقاومة في غزة صواريخها رداً على اغتيال القادة، وعلى الرغم من كل الصعوبات المحيطة بحركتها، من ضيق مساحة وقدرات عسكرية لدى العدو، ظلّت تطلق رشقاتها باتجاه مستوطنات العدو من دون توقّف، بل أظهرت تفانياً في استخدامها بحسب التوقيت والتصويب، فمع دكّ مستوطنات ما بات يسمى "غلاف موت" كانت تنطلق صواريخ المقاومة متفاديةً بشكل كبير القبب الحديدية الإسرائيلية لتتجه نحو المدن، حتى اضطر العدو إلى استخدام "مقلاع داوود" للتصدي لأحد صواريخ الفصائل، وهي خطوة تفاجأ بها العدو من قدرات المقاومة وما تمتلكه في جعبتها.
حاول العدو منذ البداية، فرض تهدئة من دون شروط على الفصائل من خلال الوساطات، ولكن الفصائل لم تستجب ووضعت شروطاً على العدو لوقف القتال. ظنّت الحكومة الإسرائيلية أن اغتيال قادة الجهاد بشكل متكرّر والاستهداف الكبير لمواقعها، سيدفعها نحو القبول بالتهدئة، ولكن حافظت المقاومة على ثباتها في الرد على اعتداءات الجيش الإسرائيلي ووضعت شروط القبول بالتهدئة، إلى أن أجبر العدو على القبول بها وجرى الاتفاق على وقف إطلاق النار، وعلى الرغم من ذلك وبعد دقائق من سريان الاتفاق، أطلقت المقاومة رشقة صاروخية تجاه المستوطنات، وهي رسالة للعدو لإفهامه أن المقاومة رغم الخسائر ما زالت جاهزة وقادرة على صد عدوانية الاحتلال.
"إثبات القدرة"، عنصر آخر من عناصر الاقتراب الموزّع نجحت فصائل المقاومة في تثبيته بالرغم من سعي العدو إلى كسره.
حماية المشروعية
يردّد قادة محور المقاومة عند كل مفصل العبارة الآتية: "نتدخّل في الوقت المناسب". هو ليس تعبيراً عن عجز أو ضعف في القدرة، بل هو عنصر من عناصر منع العدو من استنزاف المحور وإدخاله في مواجهة لا تحقّق تقدّماً في الصراع معه.
وعليه فإن معركة "ثأر الأحرار"، ارتأى خلالها محور المقاومة عدم دحرجة الأمور نحو حرب شاملة لا تغيّر شيئاً في طبيعة الصراع مع العدو كما جرى إبان "سيف القدس"، وبالتالي يضاف عنصر جديد إلى استراتيجية الاقتراب الموزّع، وهو "مكافحة الاستنزاف".
كثر الكلام خلال "ثأر الأحرار" عن احتمالية تدخّل محور المقاومة في المواجهة وبالتحديد "حزب الله". لم يكن هذا الكلام فقط تخوّفاً من دخول الحرب، بل هو يعد كرسالة هدفها إحباط الفصائل في غزة من أن الحزب لن ينجدها، إذ يدرك الإسرائيلي أن هذه المواجهة لا تستدعي تدخّلاً للحزب، فالأخير يعلم جيداً قواعد اللعبة التي هو نفسه وضعها، حينما أطلق معادلة الأقصى التي تستدعي دخوله في مواجهة مع المحتل حال التعدي على المسجد الأقصى، ومسار معركة "ثأر الأحرار" التي كان الجهاد الإسلامي الأبرز فيها، لم تكن بحاجة لتدخّل أضلاع المحور، إذ كان الجهاد وبقية الفصائل على قدرة وجاهزية عالية في صد العدوان وإلحاق الخسائر به.
لذا فإن عنصر "حماية المشروعية" في محور المقاومة وهو عنصر أساس في استراتيجية الاقتراب الموزّع تمّ الحفاظ عليه خلال المعركة.
اللحظة الاستراتيجية
ألقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله خطاباً في ذكرى شهادة القيادي في حزب الله مصطفى بدر الدين، وفي خضم حديثه عن مجريات التصعيد الحاصل بين فصائل المقاومة في قطاع غزة والعدو الإسرائيلي: "في أي وقت تفرض المسؤولية علينا أن نقوم بأي خطوة أو خطوات لن نتردّد إن شاء الله".
ما قاله السيد نصر الله يثبت عنصر؛ "اللحظة الاستراتيجية"، وهي اللحظة التي يتدخّل فيها أحد أو جميع أضلاع محور المقاومة حال حصول تهديد وجودي لأحد الأضلاع، وهذا بالتحديد ما قصده الأمين العام حينما تحدّث عن واجب الدخول في الحرب نصرةً للمهدَّد، وهو ما لم يحدث حتى الآن، إذ إن الفصائل الفلسطينية في معركة ثأر الأحرار، وعلى رأسها الجهاد الإسلامي، خرجت من المعركة فارضةً شروطها على العدو، ومحمّلةً إياه خسائر أفهمته من خلالها حجم قدراتها العسكرية ومدى التقدّم النوعي في إدارة المعارك والحروب.