إردوغان و"طالبان" وقطر.. "كلنا في الهوا سوا"
بعد الدور الذي أداه آل ثاني في "الربيع العربي"، بالتنسيق مع تركيا، حلَّت قطر محلَّ السعودية في أفغانستان، وحتى في باكستان؛ الحليف التقليدي للرياض.
بعد 50 عاماً من اللقاء الأول بين الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز في 14 شباط/فبراير (عيد العشاق) 1945، والذي بنتيجته أصبحت السعودية بدينها ومذهبها ومالها في خدمة أميركا جملةً وتفصيلاً، أرادت واشنطن هذه المرة لآل ثاني أن يؤدوا الدور نفسه بعد انقلاب حمد بن خليفة آل ثاني على والده في حزيران/يونيو 1995.
ومنذ ذلك التاريخ (31 عاماً)، سمحت أميركا للدوحة بأن تؤدي أدواراً إقليمية أكبر بكثير من حجمها، تستطيع من خلالها سحب البساط من تحت أقدام "أولاد عمومتها" آل سعود؛ فبعد الدور الذي أداه آل ثاني باعتراف حمد بن جاسم في ما يسمى بـ"الربيع العربي"، بالتنسيق مع تركيا بحجمها التاريخي والديني والمذهبي، خدمةً لما يُسمى بـ"الإسلام السياسي"، حلَّت قطر محلَّ السعودية في أفغانستان، وحتى في باكستان؛ الحليف التقليدي للرياض.
وقد أدت السعودية، بتعليمات واشنطن، ومعها باكستان والإمارات، دوراً أساسياً في دعم المجموعات الجهادية الأفغانية في حربها ضد الاحتلال السوفياتي للفترة الممتدة بين العامين 1979-1989، ثم ساهمت معاً في ميلاد حركة "طالبان" للفترة الممتدة بين العامين 1993-1994، وإيصالها إلى السلطة في كابول في أيلول/سبتمبر 1996، وبدعم أميركيّ.
انتهى المطاف بها جميعاً بالاحتلال الأميركيّ لأفغانستان في تشرين الثاني/نوفمبر 2001، بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، والتي أدت فيها "القاعدة"، صنيعة المخابرات السعودية والأميركية، دورها المعروف. وجاءت "الوساطة" القطرية بين "طالبان" وواشنطن لتثبت الرغبة الأميركية في تحميل قطر، ومعها تركيا، أدواراً جديدة في المنطقة الممتدة من حدود الصين إلى البلقان غرباً، ومنها إلى الشرق الأدنى والأوسط برمّته، فقد استبعدت واشنطن خلال الفترة الماضية آل سعود وآل نهيان من مشاريعها في أفغانستان، وسلّمت الملف لآل ثاني، ومعهم أحفاد آل عثمان في إسطنبول.
يفسّر ذلك نجاح ما يُسمى بـ"الوساطة" القطرية في إنهاء الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وبالتالي موافقة الرئيس إردوغان على طلب الرئيس بايدن بإرسال الجيش التركي إلى هذا البلد المهم جداً بموقعه الاستراتيجي المهم بالنسبة إلى أميركا، في الوقت الذي كانت باكستان، وما زالت، العنصر الأهم في كلا المعادلتين؛ الأولى خلال إيصال "طالبان" إلى السلطة وبعده، والآن لإعادتها إلى هذه السلطة بعد 20 عاماً من المسرحيات المضحكة المبكية، والتي يبدو أنَّها ستستمر، وهو ما قد يجعل أفغانستان بؤرة تجذب جميع حركات التطرّف الإسلامي، وهي التي صدّرتها إلى العالم قبل 30 عاماً بذكاء كيسنجر وبريجينسكي؛ صاحبي نظرية "الحزام الأخضر".
ردَّت "طالبان" على الموقف التركي، وقالت في بيان وزّعته في 13 تموز/يوليو: "إنَّ الحركة ستتعامل مع القوات التركية في حال بقائها بوصفها قوات احتلال تستوجب الجهاد، وفق الفتوى التي أصدرها 1500 من علماء أفغانستان في العام 2001". وأبدى البيان "استياءه من عدم التزام الجانب التركي بتعهّداته لهم، بعد أن نقضت أنقرة هذه التعهدات، ما يستلزم الوقوف ضد الاحتلال المستمر منذ 20 عاماً من باب المسؤولية الوطنية والدينية".
لم يبالِ الرئيس إردوغان بتهديدات "طالبان"، فأراد أن يطمئن قياداتها من خلال تصريح مفاجئ، إذ قال: "ليس هناك أي تناقض وخلاف عقائدي بين تركيا وطالبان. لذا، أتوقع المزيد من التفاهم معها حول مجمل القضايا". لم يكن هذا التودّد التركي كافياً بالنسبة إلى قيادات "طالبان"، فكرّر المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد تهديداته لتركيا، وقال: "إنَّ استمرار الاحتلال من قبل تركيا يثير مشاعر البغض والعداوة في بلادنا تجاه المسؤولين الأتراك، وسيلحق الضرر بالعلاقات الثنائية".
المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة "طالبان"، محمد نعيم، أبقى الباب مفتوحاً مع تركيا، فأشار إلى طلبها التفاوض معهم، وقال: "لن نعلّق الآن على الطلب التركي حتى تتضح الأمور التي تريد أنقرة التفاوض من أجلها معنا. مع ذلك، إننا على اتصال دائم مع تركيا، فهي دولة كبيرة، وهي تؤدي دورها في قضايا مختلفة، ولنا معها الكثير من القواسم المشتركة، وأهمها الدين. على تركيا أن تنسى الماضي وتنظر إلى المستقبل. وبعدها، سيكون هناك حوار معها".
هذا على الصّعيد النظري، إذ تتحدَّث المعلومات عن اتصالات مكثفة مستمرة بين أنقرة وقيادات "طالبان" عبر الوسيط المعروف قطر. أما عملياً، فقد استمرَّ تدفّق اللاجئين الأفغان إلى تركيا عبر الحدود مع إيران. وقد أثار ذلك، إلى جانب حديث إردوغان عن "وحدة العقيدة والإيمان" مع "طالبان"، ردود فعل واسعة في الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية التي اتهمت إردوغان "بتلبية أوامر الرئيس بايدن في ما يتعلَّق بإرسال الجيش التركي إلى أفغانستان". وقال الأميرال المتقاعد أتيلا كيات: "إن واشنطن تريد أن تقنعنا بأننا وطالبان إخوة في الدين. علينا أن لا نقع في هذا الفخ الخطير، فإذا كنا وطالبان إخوة سيعني ذلك أننا وداعش والنصرة أولاد عمّ".
سفير تركيا السابق في واشنطن، فاروق لوغ أوغلو، عبَّر "عن قلقه من هذا التلاقي العقائدي بين تركيا وطالبان"، وقال: "لقد أوصلت عقيدة إردوغان الإخوانية تركيا إلى طريق مسدود ومظلم في سوريا وليبيا وفي علاقاتنا مع مصر، وها هي الآن تضع تركيا أمام تحديات أخطر بكثير في أفغانستان".
زعيم حزب "العمال" أركان باش اعتبر "ملفّ أفغانستان مشروعاً أميركياً خطيراً يستهدف المنطقة برمتها"، واتهم الرئيس إردوغان بـ"خدمة واشنطن في هذا المشروع، وهو امتداد لما يسمى بالربيع العربي". وأشار باش إلى "تحالف أنقرة وواشنطن وقطر خلال هذا الربيع، ودعم هذا الثلاثي لكلّ المجموعات المسلّحة ذات الطابع الجهادي، بما فيها داعش والنصرة، وهي امتداد للقاعدة؛ حليف طالبان سابقاً".
وقال: "إن إردوغان الذي يتحالف مع النصرة في إدلب، وفيها الآلاف من المسلحين الأجانب، ويدعم كل الفصائل المتطرفة في ليبيا، لا حرج عليه في الاتفاق مع طالبان حول أسس ومبادئ المرحلة القادمة، التي تريد لها واشنطن أن تستهدف روسيا والصين، اللتين يرى إردوغان فيهما دولاً معادية لمشاريعه ومخططاته التاريخية ذات الطابع القومي والديني والطائفي".
الجنرال المتقاعد توركار أرتورك أشار إلى "أهمية الدور العقائدي الذي يؤديه إردوغان في المنطقة"، وقال: "لقد أصبح إردوغان طرفاً في القضية الفلسطينية عندما أقام علاقات سريعة، ومن مدخل ديني، مع حماس بعد فوزها في انتخابات 2006. كما كان الدين مدخله لإقامة أوسع العلاقات مع كلّ الأطراف المسلَّحة وغير المسلَّحة في سوريا بعد العام 2011. والآن، يستخدم الدين أيضاً كأداة للحوار مع طالبان، ثم التّحالف معها".
المتحدثون باسم أحزاب المعارضة، وفي مقدّمتها "الشّعب" الجمهوري والحزب "الجيد" و"الشعوب" الديمقراطي، اعتبروا "حماس إردوغان في موضوع أفغانستان مغامرة جديدة ستورط تركيا في المستنقع الأفغاني، كما ورطتها في سوريا وليبيا، لأن الحديث عن حماية مطار كابول كلام غير جدي، لأن أميركا، وبكل قواتها وقوات الأطلسي، وهي أكثر من 200 ألف، ومعها 300 ألف من القوات الأفغانية، هُزمت أمام طالبان"، في الوقت الذي يرى الإعلام الموالي في حديث الرئيس إردوغان عن أفغانستان "فرصة تركيا التاريخية للعودة إلى آسيا الوسطى التي خرجت منها القبائل التركية الأولى قبل ألف عام".
في جميع الحالات، ومع التحركات الإقليمية والدولية الخاصة بأفغانستان، التي تحد الصين وإيران والجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي حديقة روسيا الخلفية، بات واضحاً أن اتفاق بايدن مع إردوغان، إن تحقق، سيجعل تركيا طرفاً مهماً في مجمل المعادلات المستقبلية الخاصة بهذا البلد.
يصادف ذلك الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية الصداقة والتحالف التي تم التوقيع عليها في الأول من آذار/مارس 1921 بين أنقرة وكابول، والتي قد تعود بها "طالبان" إلى الحضن التركي/ القطري، بعد أن كانت في الحضن السعودي/ الإماراتي، على أن تبقى باكستان، وكما كانت في الماضي، صمام الأمان في كل الحسابات الأميركية، ما دامت تمسك بمفاتيح قنابلها النووية، من دون أن يكون واضحاً، وعلى الأقل حتى الآن، ما ستفعله واشنطن ببقايا "داعش" و"النصرة"؛ الجناح السوري لتنظيم "القاعدة"، الذي يضمّ الآلاف من المسلحين الأجانب (وخصوصاً الشيشان والإيغور) والسوريين، ولهم، ومعهم آخرون، علاقات وطيدة مع الرئيس إردوغان، الذي يبدو أنه يسعى لعلاقات مماثلة مع "طالبان".