بماذا يختلف نفتالي بينيت عن بنيامين نتنياهو؟
إن اختيار بينيت أن يبدأ خطابه بهذه المقولات العقائدية، وينهي خطابه بعد 25 دقيقة، بها أيضاً، إنما يشير إلى العقيدة التي توجهه وتمثّل أساساً لنهجه السياسي.
-
وجدت "إسرائيل" في الأنظمة الرجعية العربية مصدراً رخيصاً ومِطواعاً لتقديم عشرات مليارات الدولارات للاستثمار في صناعاتها.
نفتالي وبنيامين اسمان لسبطين من "أسباط إسرائيل"، وفق الرواية التوراتية الخرافية، لكن نفتالي بينيت وبنيامين نتنياهو، كلاهما من أب وأم أميركيين، وأجداد بولونيين، ما يعني أنهما من أصل أشكينازي، خزري، اعتنق أجدادهما الديانة اليهودية بعد أن كانوا وثنيين، في القرن الثامن الميلادي.
وإذا ما اعتبر البعض أن نتنياهو من أصل إسباني، فهذا يعني أن أجداده الأمازيغيين اعتنقوا الديانة اليهودية في القرن الثالث الميلادي، وفق ما دوّنه بدقة الباحث اليهودي البروفسور شلومو زاند في كتابه، "اختراع الشعب اليهودي"، المترجم إلى عدة لغات، منها العربية.
كل هذا يؤكد أن اسميهما لا يكفيان لإثبات انحدارهما من "أسباط إسرائيل"، حتى وإن كانت رواية خرافية، وأن لا علاقة لهما، أو لأجدادهما، بأرض فلسطين. اخترعوا الكذبة وصدقوها، ولكن العالم ليس ملزماً بتصديقها مثلهم. لكن المصيبة الكبرى هي أنه مع تراجع العالم عن تصديق الرواية التوراتية الكاذبة، يُقدِم عربٌ مسلمون على ترويجها، ويخصّصون لذلك أموالاً طائلة، كانت شعوبهم الفقيرة أولى بها.
في خطابه الأول، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بصفته أول رئيس متديّن لحكومات "إسرائيل" الصهيونية، استهل بينيت خطابه بالترويج لعقيدة توراتية تلمودية، عنصرية، تدّعي التفوّق لا على محيطها فقط، بل على العالم أجمع، فكانت أولى كلماته: "إسرائيل هي منارة في بحر صاخب، شعلة للديموقراطية، متنوعة بقصد، مُحدّثة بطبيعتها، ومُصرّة على أن تقدّم مساهمتها للعالم من مجرد وجودها في الحي الأكثر قساوة على وجه الأرض". كلام استعلائي لا نسمعه من أيّ رئيس لدولة أخرى.
إن اختيار بينيت أن يبدأ خطابه بهذه المقولات العقائدية، وينهي خطابه بعد 25 دقيقة، بها أيضاً، إنما يشير إلى العقيدة التي توجهه وتمثّل أساساً لنهجه السياسي، ويعيدنا بذلك إلى أصل الرواية الخرافية، التي أسّس عليها كيانه الإسرائيلي الصهيوني، عقيدة دينية خرافية، وتاريخاً من اختراع المبشّرين السياسيين. استعلاء ودور منوط بـ"إسرائيل"، إلهيّ في ظاهره واستعماري في جوهره، مشروط بتخلف وقساوة "البحر الصاخب" من حولها. بالضبط مثلما حُدّد دورُها في مؤتمر الدول الاستعمارية، مؤتمر كامبل بنرمان 1905-1907. فهل يختلف نفتالي بينيت بخطابه هذا كثيراً عن بنيامين نتنياهو؟ وهل يقبل الفلسطينيون هذا التحدي؟
إن مثل هذا التحدي يتطلب استنهاض قيادة ذات إرادة ومصداقية، لا تُطلق تهديدات فارغة، أشبه بتلك الأسلحة، من دون ذخيرة، التي قاتل بها أجدادنا الفلسطينيون عام 1948. ومع علمنا بأنه لا توجد قيادة سياسية على قدر المسؤولية، في الوقت الحاضر، فهذا التحدي منوط بالمثقفين الفلسطينيين الوطنيين أولاً.
يضيف بينيت، في مقدمة خطابه: "نحن أمة قديمة العهد، عدنا إلى موطننا القديم، نفخنا روحاً في لغتنا القديمة واستعدنا سيادتنا القديمة، إنها إحدى العجائب لإحياء اليهودية، ودولة إسرائيل هي قلبها النابض". ثم كرّر الجملة الأكثر رواجاً في الثقافة اليهودية الصهيونية المعاصرة، باللغة العبرية قائلاً: "عام يسرائيل حي"، أي "شعب إسرائيل حي". بهذا، مرة أخرى، يعيدنا بينيت، ويعيد العالم، إلى الرواية الخرافية، بأن "اليهود هم شعب"، وأن لهم تاريخاً في بلادنا، ودوراً "تاريخياً عالمياً"، مع أن المؤرخين، ومنهم اليهود أمثال شلومو زاند، يفنّدون هذه الرواية إلى أبعد الحدود، ولا يتردد علماء الآثار في تفنيد الرواية التوراتية نفسها. ويكتشف العالم تدريجياً أن دورهم العالمي ليس أكبر قليلاً من دور أيّ منظمة إرهابيّة تستخدمها القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها. وربما، في هذه الحالة الخاصة، تصبح المنظمة جزءاً ممّن خلقها أو تتمرّد عليه.
في الفقرة الثانية من خطابه، حاول بينيت أن يبعد العالم عن الجوهر الحقيقي لـ"إسرائيل"، اليهودية العدوانية، الاحتلالية، الاستيطانية، الدموية، العنصرية والمهدّدة للأمن والسلام في المنطقة والعالم. حاول ذلك من خلال إنكاره علناً وبكل وقاحة، وتسليط الأضواء على "هوية التقدم والتطور العلمي والسعي إلى الحياة الطبيعية"، فقال: "إن جوهر إسرائيل ليس حروبها مع جيرانها، فالإسرائيليون لا ينهضون كل صباح ليفكروا في الصراع، بل يريدون العيش حياة جيدة مثل الجميع، يهتمون بعائلاتهم ويبنون عالماً أفضل لأولادهم، لكننا، أحياناً، نكون مضطرين إلى أن نترك أعمالنا وعائلاتنا ونذهب إلى الحرب للدفاع عن دولتنا". ولكي يمنع المستمع من التفكير في جرائم "إسرائيل" ونهج الكذب والتضليل هذا، قفز بينيت، مباشرة، إلى تذكير العالم بالمسؤولية عن المحرقة النازية.
من هنا انتقل ليعطي العالم درساً في الديموقراطية، وإدارة الأزمات، باعتبار أن "إسرائيل" هي "منارة للأغيار"، ولا بد من أن يستمعوا إليها ويقلّدوا تجربتها، درساً في الديموقراطية وإدارة الخلافات بحكمة، حتى لو اضطرهم ذلك إلى إجراء أربع انتخابات متتالية. وبذلك قدّم بينيت نفسه للعالم بديلا لنتنياهو، بالرغم من أنه اتخذ من سابقه نموذجاً في الاستعلاء على الآخرين، وفي أسلوب الخطاب ومضمونه في الأروقة الدولية.
ليس فقط درساً في إدارة الأزمة السياسية، بل في إدارة أزمة كورونا أيضاً، وخصّص لهذا الدرس أكثر من 7 دقائق من خطابه، من أصل 25 دقيقة. فهل انتظر العالم منه أن يتحدث كيف حوّلت شركة "فايزر" المواطنين الإسرائيليين بالقوة إلى فئران اختبار؟ تكلم عن تجربة وقدّم أرقاماً ومعطيات كذّبها الإسرائيليون بعد دقائق من انتهاء كلمته. كذّبتها الأرقام الموجودة في المستشفيات ومراكز الأبحاث التي تفيد بأن لقاح "فايزر" تراجع مفعوله من 95% إلى 72% بعد إعطاء الجرعة الثالثة، بينما حافظ لقاح "أسترازنيكا" على فعالية بنسبة أكثر من 90%. وكذّبتهُ الحقيقة بأنه لم يدعُ إلى اجتماع كابينت كورونا منذ نحو شهر، بالرغم من ضرورة عقد الاجتماع أسبوعياً على الأقل.
ليس هذا فحسب، فقد وصل التبجّح إلى حدّ أن يطلق على اليهود لقب "أمة الستارت أب"، ويتحدث عن ذلك مطوّلاً، فتعدّى ثماني دقائق، عن التطور العلمي لـ"إسرائيل"، باعتبارها "منارة للأغيار" طبعاً، وهو مُصِرّ على أنه يستطيع تضليل العالم. ربما لم يقصد التضليل، بل وصلت به العنصرية والاستعلاء إلى عدم رؤية الحقائق الموضوعية، وفقاً للمثل العبري القائل: "لا تدع الحقائق تُربِكُك!". فمن يراجع مراكز الأبحاث التي تتابع التطور العلمي في العالم، بما في ذلك المعاهد الإسرائيلية، ومنهم معهد يوفال نئمان، يجد بسهولة أن "إسرائيل" لا تقف في رأس قائمة الدول المتطورة علمياً وتكنولوجياً، حتى مقارنة مع دول بحجمها سكانياً، مثل الدول الاسكندنافية، بل إن مكانتها في القائمة تتراجع منذ عقدين. ومن يراجع مسيرة "التطور العلمي"، هذه، يكتشف بسرعة أن ما حصل من تطور في أي مرحلة من حياة هذا الكيان، لم يكن ليحصل لولا سرقة براءات الاختراع التي جلبها المستوطنون، من أوروبا وأميركا والاتحاد السوفياتي سابقاً، فهل بقي اختراع في الاتحاد السوفياتي، من التكنولوجيا العسكرية حتى أبسط الأمور، لم تتمّ سرقته مع انهيار المنظومة الاشتراكية، ويجري تطبيقه في "إسرائيل" أو تطويره قليلًا، بالاستعانة بالعلوم الغربية، ثم تسجيله براءة اختراع إسرائيلية؟
لم يكن ليحصل أي تقدم لولا الاستثمارات الغربية والمساعدات المالية الكبرى، ومنها مليارات الدولارات هبة سنوية من أميركا، وفي أعقابها هجرة العلماء الغربيين إليها. أما اليوم، حين لم تعد هذه الدول قادرة على تقديم هذه المساعدات، فقد وجدت "إسرائيل" في الأنظمة الرجعية العربية، الغنية على حساب شعوبها المقهورة، مصدراً رخيصاً ومِطواعاً لتقديم عشرات مليارات الدولارات للاستثمار في صناعاتها، ومع هذه الاستثمارات عدد كبير، لا يتم الإفصاح عنه، من العلماء العرب من مصر والأردن وفلسطين، وغيرهم، يعملون في شركات "الهايتك" الدولية، لتطوير التكنولوجيا "الإسرائيلية"، الأمر الذي قد ينقذ التطور التكنولوجي "الإسرائيلي" من الانهيار. إن مكانة "إسرائيل" العلمية ليست حقيقة موضوعية، بل هي حقيقة ذاتية عالقة في الأذهان العنصرية، كما هي عالقة في أذهان حكام متخلفين يعيشون حالة الشعور بالنقص بالنسبة إلى اليهود، ويتناقلونها بالوراثة، وقد عشّشت في نفوسهم عميقاً، حتى أصبحوا من المروّجين لها.
لم يستطع بينيت أن يُنهي فقرة كورونا والتطور العلمي، هذه الفقرة الاستعلائية التضليلية، من دون العودة مرة أخرى إلى ما بدأ به، من مقولات توراتية، مستشهداً بالتلمود، إذ يقول "إن من ينقذ نفساً واحدة كأنه أنقذ البشرية جمعاء". وهو يعتقد أن العالم لا يعرف كيف يفسّر الربانيم هذه المقولة، بأن النفس البشرية، في مفهومهم الديني، هي النفس اليهودية لا نفس الأغيار، لأن اليهودي، بمفهومهم التلمودي، "ولد في حضن التوراة" ، مختلفاً عن باقي "الأغيار الذين وُلدوا في الطبيعة"، كما تولد الحيوانات، وأن الربانيم اليهود يؤمنون بأن "الأمة اليهودية" وُلدت لتكون "أمة الله"، أما الاغيار فقد وُلِدو ليكونوا "عبيداً لليهود". هذه هي حقيقة التلمود اليهودي، وهذا ما تعلّمه نفتالي بينيت ويؤمن به.
نفتالي بينيت، العنصري، المستوطن، هو المدير العام لمجلس المستوطنات سابقاً، والقاتل المعترف والمتفاخر بجرائمه، والضابط المسؤول عن مجزرة قانا، حين قصف ملجأ الأمم المتحدة في قرية قانا اللبنانية في الـ 18 من إبريل/نيسان من عام 1996 فقتل فيه 250 مدنياً وجرح أكثر من 550، كانوا قد لجأوا إلى مقر الأمم المتحدة للاختباء من الوحشية الإسرائيلية. هذا العنصري لم يستطع أن ينهي خطابه إلا بعد أن هاجم مؤتمر ديربن، الهيئة المناهضة للعنصرية والصهيونية، التابعة للأمم المتحدة، إذ رأى، بكل وقاحة صهيونية معتادة، أن كل من يعارض السياسة الإسرائيلية إنما هو العنصري، ومعاد للسامية. أي وقاحة هذه؟! وأيّ صمت دولي على مثل هذه الوقاحة؟!
اختتم بينيت كلمته بما بدأ به من مقولات عنصرية دينية كانت أساساً للأيديولوجية الصهيونية، وللاحتلال المستمر لأرض فلسطين، وتشريد الشعب الفلسطيني من وطنه، فقال: "إن إسرائيل هي أمة تحمل آمالاً كبيرة، أمة أتت بالتوراة، وروحها لا تنكسر". وأضاف، "لقد حققت إسرائيل خلال 73 سنة الكثير من الازدهار، وعلى العالم أن يختار بين النور والظلمة"، أي بين النور الذي تقدمه "إسرائيل" والظلمة التي يعيش فيها العرب والمسلمون.
لا يقبل عربي أو مسلم مثل هذه الادعاءات والإهانات، إلا إذا كان قد استمرأ الذل، عبداً يعيش حياة العبودية بانسجام مع النفس. أما الأحرار، فما بالهم لا يتحركون لقلب الطاولة؟
لقد اختار بينيت، عن سابق إصرار، أن لا يذكر الشعب الفلسطيني في خطابه، ولو بكلمة واحدة، حتى إنه لم يذكر الوجود الفلسطيني، وهذا ليس صدفة، بل عن قصد، ولا سيّما أنه اجتمع مع وزيري خارجية البحرين والإمارات قبل إلقائه الخطاب في الجمعية العمومية، ومن ادّعى يوماً أن اتفاقيات التطبيع والاسترضاء والتذلل لـ"إسرائيل" ستجلب سلاماً إلى الشرق الأوسط، أو ستساعد على اعتراف "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني في وطنه وإقامة دولته المستقلة، اكتشف الآن، إذا ما سُمح له بأن يفكّر قليلاً، أن مثل هذه الاتفاقيات جعلت رئيس الحكومة الإسرائيلية لا يعترف حتى بالوجود الفلسطيني، فكيف بحقوقه؟ قلنا ألف مرة إن سياسة استرضاء المتغطرسين لا تزيدهم إلا استكباراً وعدوانية ودموية. كنا نعتقد أنكم ستتذكرون يوماً هذه الرسالة، لكن هيهات!
أما لو كنت مسؤولاً فلسطينياً، في الوفد الذي شارك في الاجتماع السنوي للجمعية العامة، لما عدت إلى الوطن ولا غادرت مقر الأمم المتحدة قبل أن أعقد مؤتمراً صحافياً، أفنّد فيه كل ما جاء في الخطاب العنصري، الاستعلائي، الديني الصهيوني الوقح، لرئيس الحكومة الإسرائيلية.
لقد وصل غباء المستكبر العنصري وعماه إلى إنكار الواقع، واقع الاحتلال لأرض فلسطين، واقع معاناة شعب تحت الاحتلال، حتى واقع وجود هذا الشعب. لكن ذلك يتطلب قيادة فلسطينية حقيقية تعمل ولا تنام، تستنهض الهمم وتفجّر الطاقات الكامنة، لا زعامات تتفاخر بكروشها وتستجدي الدعم من أعدائها. وربما، أقول ربما مرتين، يفهم أصحاب الحل التفاوضي أنه لا يوجد من يتفاوضون معه، لأنه لا يوجد في هذا الكيان رئيس حكومة يعترف بوجودهم.