دلالات نتائج انتخابات الكنيست على فلسطينيي 48
أبلغ دلالات انتخابات الكنيست الأخيرة هي ضرورة الحفر في الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني لإيجاد مشروع وطني متكامل لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني الجديد.
تأتي نتائج انتخابات الكنيست الخامس والعشرين في كيان الاحتلال لتضع كل المشاركين فيها أمام أحجامهم في الشارع، ولا سيما الأحزاب العربية التي تمثل فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948. هذه الأحزاب التي دخلت الندوة البرلمانية للاحتلال للمرة الأولى عام 1988 عبر 5 نواب، وإن نجحت في تحصيل 10 مقاعد في هذه الانتخابات، تواجه مأزقاً مركباً، سواء داخل الكنيست أو في العمل بين الناس.
بلغت نسبة المقاطعة 46% من أصل مليون فلسطيني يحقّ لهم التصويت في انتخابات الكنيست، ويشكلون 20% من سكّان ما يعرف بـ"دولة إسرائيل". هذه النسبة التي تعني فعلياً أنَّ نصف فلسطينيي 48 تقريباً يرفضون التصويت في الكنيست، انخفضت عن الانتخابات الماضية عام 2021، التي قاطعها نحو 60% من المصوتين الفلسطينيين.
لنتائج هذه الانتخابات دلالات بالغة الأهمية، أولها أن الصهاينة، وخصوصاً المتدينين، "عاقبوا" معسكر رئيس الحكومة السابق يائير لابيد بهزيمته في الانتخابات لأسباب عديدة، أبرزها تشكيله حكومة تضم عرباً، وفق أحد قادة المعسكر اليميني، أي القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس.
ثاني الدلالات هو أنّ نية الفلسطيني بالاندماج في الحياة السياسية الإسرائيلية ليست كافية ليحصل هذا الأمر، فها هم الفلسطينيون صوتوا بنسبة 54%. ومع ذلك، أتت أصوات الصهاينة بسموتريتش وبن غفير إلى سدة السلطة، إضافةً إلى إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو الموصوف بـ"الساحر" بين خصومه ومؤيديه الإسرائيليين. الأمر إذاً أنَّ اليهودي لا يريد للفلسطيني الاندماج، وأنَّ الفلسطيني بالنسبة إلى اليهودي هو مجرد مواطن من درجة ثانية أو عاشرة، لكنه مهما حصل، لن يصبح مساوياً لليهودي في "دولة قومية لأبنائها اليهود فقط".
ثالث الدلالات هو أن إستراتيجية المشاركة في الحكومة الإسرائيلية، سواء عبر التوزير أو التوصية بمجرم حرب مثل بيني غانتس، هي إستراتيجية فاشلة بكل المعايير، ولو رُوج لها على أنها أفضل الموجود لتحقيق ما أمكن من حقوق أهلنا في الأرض المحتلة.
رابعاً، تشرذم الأحزاب العربية إلى 3 قوائم في هذه الانتخابات دليل على البون الشاسع بين توجهاتها السياسية والتكتيكية والفكرية حول شكل التعامل السياسي مع سلطات الاحتلال، لكن هذا التشرذم الذي أنقص المقاعد العربية في الكنيست هو أكبر دليل على أن هذه الأحزاب لا تمانع الاندماج في رسم معالم الحياة السياسية الإسرائيلية.
خامس الدلالات المهمة بعد انتخابات الكنيست الخامسة خلال 4 أعوام، هو الاتهامات والنقاش الذي تفجر بعد ظهور نتائجها حول تمويل الحملات الانتخابية، ومصدره جهات يهودية أميركية مقربة إلى الحزب الديمقراطي، وصل إلى جمعيات مقربة من الأحزاب العربية في كيان الاحتلال للعمل على زيادة النواب العرب في الكنيست.
هنا، يحقّ لكلِّ فلسطيني أن يسأل: لماذا قد يهتم يهود أميركيون بانتخابات الكنيست إلى هذا الحد؟ هل هي خشيتهم من تأثر صورة "إسرائيل" في العالم بوصول صهاينة متطرفين مثل سموتيريتش ودرعي وبن غفير إلى الكنيست ضمن ائتلاف يميني كُلف رئيسه نتنياهو تأليف الحكومة العتيدة؟
المؤكّد أنَّ كثراً من مؤيدي "إسرائيل" في العالم معنيّون بتسويق صورتها كدولة غربية ديمقراطية وليبرالية، رغم كونها "دولة" يهودية تمارس سياسيات التفوق العرقي والفصل العنصري، ولكن بوجوه "معتدلة"، مثل غانتس ولابيد وحلفاء عرب معهم في سدة الحكم، ولا مانع من وجود معارضة فلسطينية شكلية في الكنيست.
أصوات هؤلاء المؤيدين ترتفع في الآونة الأخيرة بسبب خشيتهم مما قد يتسبب به أشخاص مثل بن غفير الذي يطالب بالتضييق على الأسرى الفلسطينيين وحفظ حق اليهود في اقتحام المسجد الأقصى في أيِّ وقت وأداء شعائرهم التلمودية في حرمه، أو مثل سموتريتش، وهو من غلاة المستوطنين، الذي يطالب بإلغاء الإدارة المدنية في الضفة، وإطلاق يد المستوطنين فيها من دون أي رقابة للعربدة ضد الفلسطينيين، وتوسيع الاستيطان من دون العودة حتى إلى الحكومة الإسرائيلية لطلب الموافقة على بناء وحدات سكنية استيطانية جديدة.
يبقى أن هذه النتائج تعكس إرادة المصوتين الفلسطينيين في الداخل المحتل وخياراتهم، ولكن ليس هناك طريقة لقياس آراء المقاطعين وخياراتهم السياسي سوى بمقاطعتهم التصويت، وهم نسبة عالية الدلالة إحصائياً. الأهم هو الدلالات السياسية لخيارهم بالمقاطعة، إذ يرى المقاطعون في المشاركة في الكنيست اندماجاً في مشروع الأسرلة ومحاولة لفصل ابن الأرض المحتلة عن بقية الشعب الفلسطيني مكانياً وسياسياً عبر الانخراط في مشروع سياسي لا يتضمن حق العودة ورفع الحصار عن غزة وخفض الاستيطان في الضفة.
أما نفسياً، فنسبة كبيرة من المقاطعين ترفض حتى فكرة التعايش مع الإسرائيلي، محتل الأرض وقاتل الشعب، مهما حاول ادعاء اليسارية والمساواة ومساندة العدالة. في نظر المقاطعين، لا يلتقي السّيف مع رقبة الشعب الفلسطيني الواحد تحت قبة برلمان بُني على أرض مسروقة في القدس الغربية.
غياب المشروع الوطني الجامع بين فلسطينيي 48 المقاطعين وغيرهم من المنادين بوحدة الشعب الفلسطيني السياسية والاجتماعية والنفسية في كلّ فلسطين التاريخية والمنافي يبقى أكبر العقبات أمام تبلور توجّه المقاطعة إلى فعل نضالي يتراكم على الأرض، وربما تزداد المقاطعة لهيئات الاحتلال مع تصاعد التنسيق بين الساحات الذي ظهر بشكل جلي خلال معركة "سيف القدس".
فالمشاركة الشعبية الواسعة لفلسطينيي 48 في معركة "سيف القدس" وتحمّلهم أثمان هذه المشاركة من مضايقات واعتقالات وملاحقات من قبل سلطات الاحتلال دليل على جاهزيتهم لحمل مشروع وطني مشترك مع بقية الشعب الفلسطيني.
تمسّك الفلسطينيين بإحياء ذكرى شهداء هبة أكتوبر المتوازية مع انطلاقة الانتفاضة الثانية عام 2000 يقدم مثالاً صارخاً على الحاجة إلى مشروع وطني جامع يتخطى حدود عام 48 أو 67، وأساسه وحدة الشعب الفلسطيني الذي يقف بكله في 30 آذار/مارس من كل عام في تحية وفاء لشهداء يوم الأرض الذي خلده في الوجدان الوطني الجماعي دم 6 شهداء ارتقوا دفاعاً عن الأرض الفلسطينية.
إنَّ أبلغ دلالات هذه الانتخابات هي ضرورة الحفر في الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني لإيجاد مشروع وطني متكامل لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني الجديد من كل أوهام التسوية والمهادنة مع المحتل انطلاقاً من وحدة الساحات، فها هي "أوسلو" تلفظ أنفاسها كل يوم على أرض الضفة الغربية والقدس المحتلة وغزة المحاصرة، فيما يجاهد أنصار المشاركة في الكنيست لإقناع نحو نصف شعبنا في الأرض المحتلة عام 1948 بالتصويت في كنيست يشرع سياسات قهر لبقية الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى كونها لا تحقق لفلسطينيي 48 أبسط مقومات الحياة الكريمة.
أرقام الجريمة في المجتمع العربي ونسب الحرمان في أكثر من مجال اجتماعي وسياسي تتكلَّم لتقول بوضوح لكلّ من لم يفهم بعد: "إسرائيل" وجدت أساساً لتكون "دولة" لليهود، ولا يمكن أن تقبل بأيِّ شكل بتغيير هذا الأساس.