إثيوبيا وتركيا.. المياه بين المصالح والسّياسة والدين
تحدث بن غوريون في أواسط الخمسينيات عن حاجة "إسرائيل" المحاصرة بمحيطها العربي إلى ثلاث قصبات هوائية غير عربية للتنفس، وهي تركيا وإيران والحبشة.
-
إثيوبيا وتركيا.. المياه بين المصالح والسّياسة والدين
في حديث رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): سيحان وجيحان والفرات والنيل من أنهار الجنة". تقع الأنهار الثلاثة الأولى في تركيا، ويقع أهم منابع النهر الرابع في إثيوبيا، وهي تشكل معاً حديث السياسة عربياً، لأنها تهمّ 4 دول عربية هي سوريا والعراق والسودان ومصر.
كما أنها تهم "الدولة" العبرية وكل من آمن بنظريتها الصهيونية التي رفعت شعار "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات"، فجاء اليهود إليها من كل حدب وصوب، واحتلوا فلسطين، وطردوا أهلها، ولم يكن لديهم همّ سوى المياه، ليس النيل والفرات فحسب، بل كل أنهار المنطقة الممتدة بينهما في سوريا ولبنان والأردن أيضاً، وهو ما تتحدث عنه الأساطير والكتب التي يؤمنون بها، وفيها الكثير من الحكايات.
وحتى لو تركنا جانباً علاقة كل من الحبشة وتركيا بالتاريخ الإسلامي منذ بدايته، وتجاهلنا كل الحضارات التي قامت على ضفاف الأنهار الأربعة منذ ما لا يقل عن 10 آلاف سنة، فقد بات واضحاً أن هذه الأنهار ستكون سبباً مباشراً وغير مباشر لأزمات، إن لم نقل مواجهات ساخنة بين الدول التي تحتاج إلى مياهها الآن ومستقبلاً.
ولكي لا نعود إلى التاريخ القديم، يكفي أن نذكّر بأزمة سد النهضة الإثيوبي مع السودان، والأهم مصر، التي لا مستقبل لها من دون مياه النيل الأزرق والأبيض، فإثيوبيا هي ثاني أغنى دولة أفريقية مائياً بعد دولة الكونغو الديموقراطية، وتعد منبعاً للمياه لجميع دول الجوار، ففيها 12 نهراً، و22 بحيرة، ومخزونٌ كبيرٌ من المياه الجوفية المتجدّدة، يزيد كميتها معاً على 150 مليار متر مكعب سنوياً. وقد بنت حتى الآن حوالى 15 سداً على الأنهار المشتركة بينها وبين الدول المجاورة لها، وهي السودان ومصر وجنوب السودان وأريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا.
وإضافة إلى هذه السدود، تستمر إثيوبيا في بناء سدود أخرى، أهمها سد النهضة على النيل الأزرق، وهو يستهدف مصر والسودان وسد غيلغيل غيبي الرابع والخامس على نهر أومو، وكلاهما له آثاره السلبية في كينيا.
معظم هذه السدود تم إنشاؤها بقرارات إثيوبية منفردة، من دون التشاور مع دول المصب المجاورة، ما يتعارض مع الأعراف والقوانين الدولية لإدارة الأنهار الدولية المشتركة وقواعد القانون الدولي، وهو ما يلحق أضراراً بالغة بدول المصب، وفي جميع المجالات. ولم يضع المشرفون على مؤسسة نوبل كل هذه المواقف العدائية بعين الاعتبار عندما قرروا العام الماضي منح رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد علي جائزة نوبل للسلام، بحجة مصالحته مع أريتريا، وربما لعدائه لمصر!
وقد بدأت إثيوبيا باستغلال مياه أنهارها في ستينيات القرن الماضي، بعد أن أوضحت دراسة أميركية أن الطاقة الكهربائية التي يمكن استغلالها من مياه الأنهار فيها تزيد على 45,000 ميغاواط (السد العالي المصري حوالى 2,000 ميغاواط). جاء هذا الاستغلال بعد الدراسة التي قام بها رجل المخابرات الأميركية، إريك جونستون، بناءً على موافقة من الحكومة الأميركية في آب/أغسطس 1957 بعد انهيار مبدأ أيزنهاور في سوريا، وبعدها بعام قيام الوحدة مع مصر، وبالتالي الاتفاق المصري - السوفياتي على بناء السد العالي.
وأعد مكتب الاستصلاح الأميركيUS Bureau Of Reclamation في العام 1958 دراسة شاملة حول واقع المياه في إثيوبيا، تم بموجبه تحديد 26 موقعاً لإنشاء السدود، أهمها 4 سدود على النيل الأزرق الرئيسي، بسعة تخزينية تصل إلى 81 مليار م³، وهو ما يعادل جملة الإيراد السنوي للنيل الأزرق بمرة ونصف المرة تقريباً، ولا يختلف الوضع في تركيا عنه في إثيوبيا.
وقبل أن نتحدّث عن المياه التركية، ما علينا إلا أن نذكر ما قاله بن غوريون عندما تحدث في أواسط الخمسينيات "عن حاجة إسرائيل المحاصرة بمحيطها العربي إلى ثلاث قصبات هوائية غير عربية للتنفس، وهي تركيا وإيران والحبشة"، وكانت الأخيرة تحت حكم الإمبراطور هيلاسيلاسي، فيما كانت إيران تحت حكم الشاه. وفي تركيا، كان الثنائي مندرس-بايار، وكانوا جميعاً حلفاء لأميركا و"إسرائيل" وأعداء للعرب.
وكما هو الحال في إثيوبيا، فقد أثبتت وثائق السفارة الأميركية في طهران أن المخابرات الأميركية اقترحت (كما هو الحال في إثيوبيا) في أواسط الخمسينيات على مدير عام مؤسسة المياه الوطنية سليمان دميرال وحكومة عدنان مندرس بناء سدود كبيرة على نهري الفرات ودجلة، لاستخدام المياه كسلاح ضد سوريا والعراق، وهو ما اقتنع به دميرال الذي أدى دوراً أساسياً في بناء 5 سدود على نهر الفرات، وسدين على دجلة، إذ قال خلال افتتاح سد أتاتورك في العام 1992: "العرب يبيعون البترول بالدولار، ونحن أيضاً علينا أن نبيع مياه أنهارنا بالدولار"، وهو ما سعى من أجله الرئيس الراحل تورغوت أوزال، عندما اقترح في أواخر الثمانينيات مدّ أنابيب للمياه من تركيا إلى سوريا، ومنها إلى الأردن و"إسرائيل" ودول الخليج، كما خطط لنقل مياه نهر ماناوغات القريب من نهر سيحان على الأبيض المتوسط إلى "إسرائيل" بواسطة ناقلات المياه الضخمة.
وكما هو الحال في إثيوبيا، فقد تهربت تركيا منذ البداية من التعاون مع دول المصب، العراق وسوريا، خلال بنائها للسدود، وآخرها سد قرقميش، الذي يبعد عن الحدود مع سوريا حوالى 3 كيلومترات فقط.
وتعتبر أنقرة الفرات ودجلة أنهاراً عابرة للحدود، لا أنهاراً مشتركة، وهي لم توقع على اتفاقية المياه الدولية (أيار/مايو 1997)، وفيها 22 نهراً ينبع من أراضيها ويمر من أراضي دول الجوار، أو ينبع من أراضي دول الجوار ويمر من أراضيها، كما فيها 5 أنهار تشكل حدوداً جغرافية لمسافات معينة مع دول أخرى، وهي جورجيا وبلغاريا واليونان وأذربيجان وإيران والعراق.
يضاف إلى ذلك أن في تركيا ما لا يقل عن 60 نهراً، لكل منها طول مختلف عن الآخر، ويوجد فيها عدد مماثل من البحيرات. وأنشأت الحكومات التركية المتتالية المئات من السدود على مختلف الأنهار الصغيرة والكبيرة لأغراض الشرب والري والطاقة. ووصل عدد هذه السدود إلى 700 سد، أهمها سد أتاتورك على نهر الفرات، بطاقة استيعابية تزيد على 55 مليار متر مكعب من المياه التي تستغلها تركيا لأغراض الري وتوليد الطاقة، وهي حوالى 2400 ميغاواط.
وكما هو حال إثيوبيا مع جاراتها، فقد شهدت علاقات أنقرة مع سوريا والعراق مراحل من الفتور والتوتر بسبب السدود ومياه دجلة والفرات، وتقول دمشق وبغداد إن تركيا تستخدمها كسلاح ضدها. ولم يكن اتفاق الرئيس الراحل تورغوت أوزال مع الرئيس حافظ الأسد في العام 1087 كافياً لإنهاء أزمة المياه، بعد أن تهرب سليمان دميرال من الالتزام ببنود الاتفاقية عندما استلم السلطة في العام 1992، فقد تعهدت تركيا، ولمدة 5 سنوات، بترك 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لكلّ من سوريا والعراق، مقابل أن توقف دمشق دعمها لحزب العمال الكردستاني، على أن يتم التوقيع في نهاية العام 1992 على اتفاقية دولية تتعهد بموجبها تركيا بتخصيص 650 متراً مكعباً/ثانية من المياه لسوريا والعراق.
وعندما تهرب دميرال من التوقيع على الاتفاقية النهائية، عادت دمشق إلى دعمها للكردستاني، وهو ما أدى إلى توتر بين الدولتين، انتهى باتفاق أضنة في تشرين الأول/أكتوبر 1999، بعد خروج أوجلان من سوريا. وعلى الرغم من الانفراج النسبي في العلاقة بين الدولتين بعد ذلك التاريخ، وخصوصاً بعد استلام العدالة والتنمية السلطة نهاية العام 2002، فإنَّ الأجواء الإيجابية لم تدم طويلاً مع غيوم "الربيع العربي" التي خيّمت على المنطقة ونسفت العلاقات التركية-السورية برمّتها.
ومع استمرار المشاكل الأكثر تعقيداً في العلاقات التركية السورية، ومنها التواجد العسكري التركي المباشر في الشمال السوري والعراقي، ودعم أنقرة لكل الفصائل السورية وغير السورية، فإن قضية المياه باتت بعيدة من النقاش، بسبب سيطرة قسد والميليشيات الكردية على حوض نهري الفرات ودجلة. ويدفع ذلك واشنطن تارة، وموسكو تارة أخرى، إلى التدخل عند اللزوم، لمنع أنقرة من استخدام المياه كورقة ضغط على الدولة السورية أو الإدارة الذاتية، كما حدث مؤخراً في منطقة الحسكة.
وقد اعتبر البعض هذا الموقف التركي مؤشراً على احتمالات أن تبقى المياه سلاحاً استراتيجياً بيد أنقرة، للاستفادة منه في الضغط على دمشق، وإجبارها على القبول بشروطها السياسية والعسكرية اللاحقة قبل أو بعد الاتفاق على الحل النهائي للأزمة السورية بانعكاساتها على العراق، وهو البلد العربي الثاني الذي يقع ضمن حدود الحسابات والمخططات والمشاريع التركية التي يسعى من أجلها الرئيس إردوغان عقائدياً وقومياً واستراتيجياً، ولن يتردد في استخدام كل الوسائل لتحقيقها، مهما كلف ذلك تركيا.
وسيرشح هذا الاحتمال المنطقة العربية الممتدة من النيل إلى الفرات إلى مرحلة مثيرة من الصراعات، إن لم نقل الحروب، من أجل المياه، عصب الحياة بالنسبة إلى مصر والسودان وسوريا والعراق، وبالتالي الأردن ولبنان وكيان الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت "إسرائيل" وستبقى المستفيد الوحيد من مجمل هذه الصراعات التركية - العربية - الإثيوبية، مع الفارق في العلاقة بين تل أبيب وكل من أنقرة وأديس أبابا، فعلى الرغم من التحالف المباشر بين "إسرائيل" وإثيوبيا وانعكاسات ذلك على العديد من المعادلات الأفريقية، فإن العلاقات الإسرائيلية مع تركيا ليست على ما يرام، وعلى الأقل في الجزء المرئي منه، فخلافاً للفتور والتوتر بين أنقرة وتل أبيب، إلا أنَّ علاقات تركيا مع كل من قطر وسلطنة عمان مميزة، وهاتان الدولتان لهما علاقات "خاصة" مع "إسرائيل"، التي تسعى إلى تركيع الأنظمة الخليجية عموماً.
وترى تل أبيب في الدور التركي في سوريا والعراق والصومال وليبيا وقطر ولبنان وتونس وموريتانيا والسودان، ودول عربية أخرى، خدمة لمصالحها الإقليمية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وهو ما يدفعها إلى التهرب من المزيد من التوتر مع الرئيس إردوغان، من دون أن تكون هذه المعطيات كافية بالنسبة إلى سوريا والعراق ومصر والسودان، باعتبارها أطرافاً مباشرة في قضية المياه، لإقناعها بضرورة التنسيق والتعاون المشترك لمواجهة الاحتمالات المستقبلية، والاتفاق مع تركيا وإثيوبيا على القواسم المشتركة لمشاكل المياه.
ومن دون معالجتها سلمياً عبر الحوار بين الدول المعنية، يعرف الجميع أنّ "إسرائيل" ستبقى المستفيد الأول والأخير من هذه الخلافات، ولاحقاً الصراعات التي ستتيح لها تحقيق أحلامها في مياه النيل والفرات، كما أتاح لها "الربيع العربي" تحقيق أحلامها في تدمير 3 دول عربية رئيسية، تمنى بن غوريون تدميرها في العام 1955، وهي سوريا والعراق (آور وبابل)، ومصر (الفراعنة)، لحسابات دينية وتاريخية لم ولن ينساها منظرو الصهيونية العالمية، وكل ما فعلوه وسيفعلونه هو لتحقيق هذا الهدف فقط. ومن دونه لا يمكن للكيان العبري أن يستمر