بايدن أو ترامب.. ماذا عن الصّراع النوويّ وخطر دمار العالم؟
مع التأرجح في ملفّ الأسلحة النووية، وانسحاب ترامب من أغلب المعاهدات المتعلّقة بهذه الأسلحة، بالتوازي مع تطوير لافت لقدرات روسيا النووية، يبقى هذا الملفّ الحسّاس مرتبطاً بمناورة دقيقة وحسابات حول النفوذ والسيطرة، تفرض نفسها على أي رئيس أميركي.
حتى كتابة هذه السّطور، لم تكن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الأميركية قد ظهرت، والتي حاول كلّ من المتنافسين فيها، الرئيس الحالي دونالد ترامب والمرشّح الديموقراطي جو بايدن، الإيحاء بأنَّه الفائز. وفي الوقت الذي يتّهم كلُ طرفٍ الآخر بتنفيذ مناورات احتيالية وغير قانونية للفوز، فإن هوية الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، حتى مع بعض التعقيدات المحتملة، لن تتأخّر كثيراً قبل أن تظهر، وستعود الحياة السياسية الأميركية، ومن خلالها الحياة السياسة الدولية، إلى الانتظام في مسارها التقليدي الذي اعتدناه بشكل دائم تقريباً.
ما يميّز الانتخابات في هذه الدورة، ويجعل الجميع، داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، يتابعها بشغف وبحذر، أنَّ الرئيس الحالي دونالد ترامب شكَّل خلال فترة حكمه الأولى – من العام 2016 حتى اليوم - ظاهرة غريبة مليئة بالتناقضات المختلفة في السياسة الداخلية والدولية، وفي علاقته مع الصّحافة ووسائل الإعلام، وفي تواصله مع رؤساء الدول الأخرى، وفي موقفه النافر من أغلب الاتفاقيات أو المعاهدات التي كانت الإدارة الأميركية قد التزمت بها، الأمر الذي دفع هؤلاء جميعاً إلى الترقّب والانتظار، لمحاولة معرفة كيف ستكون عليه السياسة الدولية انطلاقاً من هُوية الفائز في هذه الانتخابات.
في الواقع، تعتبر أغلب الملفات التي يرعاها الرئيس الأميركي أو يتدخّل فيها أو يؤثر فيها بشكل عام مهمّة جداً، ومنها السياسية أو الاقتصادية وغيرها، ولكن تبقى الملفات المتعلّقة بالأسلحة النووية وسباق التسلّح هي الملفات الأكثر حساسية ودقّة، والّتي تحمل كمّاً هائلاً من الخطورة، بحيث لا يمكن التساهل معها أو التعامل معها بطريقة مزاجيّة، فنتائج أي خطأ أو تسرّع في القرار أو المعالجة لهذه الأسلحة من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الدول التي تملك القدرات النووية، والتي أصبحت اليوم بالعشرات، وبالتالي تملك مفتاح دمار العالم، أو على الأقل القسم الأكبر منه، ستكون كارثية وقاتلة، ولن يكون بالإمكان العودة عنها أو تصحيحها.
انطلاقاً من ذلك، ما بين الرئيس الحالي دونالد ترامب في حال فاز أو منافسه المتقدّم جداً في هذه الانتخابات (بايدن)، والذي أصبح، كما يبدو، قاب قوسين من أن يكون سيد البيت الأبيض، كيف يمكن مقاربة الملف النووي أو ملف التسلح بشكل عام؟ وهل يمكن القول إنّ فوز أحد المتنافسين سوف يطلق حمى الصراع النووي وسباق التسلّح، مُشكِّلاً عبر قراراته المتسرعة أو المتهورة الخطر الأكبر على العالم، أو إنّ فوز أحدهما سوف يقوي آلية ضبط هذا الصراع، وبالتالي، مع الفائز سوف يزداد هامش الأمان العالمي أكثر؟
صحيح أن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي (سابقاً) والولايات المتحدة الأميركية وحلفائهما، والتي امتدت عشرات السنوات ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، قامت بأساس عناصرها - إضافةً إلى الصراع على النفوذ السياسي عبر العالم والمنافسة الاقتصادية الواسعة - على سباق محموم للتسلح، من خلال قيام كل طرف بتطوير وحشد القدرات والإمكانيات الصاروخية والنووية لمواجهة الطرف الآخر، إلى درجة كانت تحبس الأنفاس، لما لذلك من تداعيات مُدَمّرة للعالم بشكل كامل، وليس فقط للطرفين المتصارعين، ولكن كان الفريقان دائماً، بقرار ذاتي أو بدافع من الحلفاء أحياناً، ومن منظمة الأمم المتحدة أحياناً أخرى، يفسحان المجال، ويخلقان الفرص المناسبة للحوار والتعقل، حيث كان كل منهما يعلم جيداً قدرة الطرف الآخر على تدميره مع حلفائه، إلى درجة المحو من الوجود.
هذه الفرص من الحوار والتعقل كانت عبارة عن لقاءات مشتركة لمسؤولي أو دبلوماسيي وعسكريي البلدين، وغالباً ما كانت تترجم بمعاهدات ثنائية بين القطبين أو موسعة لأكثر من دولة، عنوانها الحد من القدرات الاستراتيجية المتمثلة بالأسلحة النووية والصواريخ الباليستية القصيرة أو المتوسطة أو البعيدة المدى.
معاهدة الصّواريخ المضادة للباليستيّة: هي معاهدة تم التوقيع عليها بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، للحدّ من أنظمة الصواريخ المضادة والمستخدمة للدفاع ضد الأسلحة النووية المنقولة بالصواريخ الباليستية. وفقاً لبنود المعاهدة، يلتزم كل طرف بنظامين من الصواريخ المضادة للباليستية، كل منهما يُحَدّ بما لا يزيد على 100 صاروخ مضاد للبالستية.
تم توقيع المعاهدة في العام 1972، وبإشراف ومتابعة من الرئيس الأميركي الجمهوري حينها، ريتشارد نيكسون، وكانت مفعّلة لمدة 30 عاماً. وبعد حلّ الاتحاد السوفياتي في العام 1997، قامت الولايات المتحدة وأربعة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بالموافقة على الاستمرار بالمعاهدة، لتنسحب منها الولايات المتحدة الأميركية في العام 2002، مؤدية بذلك إلى إنهائها.
معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى (معاهدة القوات النووية المتوسطة):
تمَّ التوقيع عليها بين كلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي في العام 1987، ووقِّعت في واشنطن من قبل الرئيس الأميركي الجمهوري أيضاً رونالد ريغان والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. وتعهّد الطرفان بعدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنّحة أو متوسطة، وتعهّدا أيضاً بتدمير كلّ منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000-5500 كيلومتر، ومداها القصير ما بين 500-1000 كيلومتر، ليعود اليوم الرئيس الأميركي الحالي (الجمهوري أيضاً) دونالد ترامب وينسحب منها في العام 2019، مطلقاً صفارة واضحة لسباق نووي غير مضبوط.
ستارت 1 (معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية): معاهدة ثنائيّة وقعت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية في العام 1991 خلال حكم جورج بوش الأب الجمهوري أيضاً، ودخلت حيز التنفيذ في العام 1994، مُنعِ بموجبها الموقِّعِون عليها من نشر أكثر من 6000 رأس نووي فوق ما مجموعه 1600 من الصورايخ الباليستية والقاذفات العابرة للقارات. كان التفاوض على ستارت 1 من أكبر المفاوضات وأعقدها عبر التاريخ، ونتج من التنفيذ النهائي لها في أواخر العام 2001 إزالة حوالى 80% من جميع الأسلحة النووية الاستراتيجية في العالم، لتنتهي في 5 كانون الأول/ديسمبر 2009، ويتم استبدالها في نيسان/أبريل 2010 بمعاهدة ستارت الجديدة.
معاهدة ستارت الجديدة: وقِّعَت بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية في العام 2010 خلال حكم الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، ودخلت حيّز التنفيذ في العام 2011، وتنصّ على خفض الرؤوس النووية إلى حوالى 30% خلال 10 سنوات. قبل المعاهدة، كانت واشنطن تملك حوالى 22000 رأس نووي، انخفضت بموجب المعاهدة إلى 4480 رأساً، وكانت روسيا تملك 30 ألف رأس نووي، انخفضت بعد المعاهدة إلى حوالى 7000 رأس، ولكن ما زالت الدولتان تملكان مجتمعتين حوالى 90% من مخزون الأسلحة النووية العالمية، والكافية لتدمير كل بلد البلدَ الآخر مرات عدة.
اليوم، هناك نقاش حاد يدور بين الدولتين حول تجديد المعاهدة التي ينتهي العمل بها في شهر شباط/فبراير من العام 2021. وفي وقت يفضّل الأميركيون وقف العمل بها وإحياء معاهدة أخرى يتمّ إدخال الصين فيها، مع نية مبيّتة (أميركية - ترامبية) لإنهائها، لكونهم يعلمون باستحالة موافقة الصين على الانخراط فيها، لأنها ما زالت بعيدة عن امتلاك القدرات النووية التي تمتلكها كل من موسكو أو واشنطن، فإن مصيرها، كما يبدو، هو الإلغاء، تماماً كما يبغي الرئيس ترامب ضمن استراتيجيته الأخيرة القاضية بالانسحاب من أغلب المعاهدات التي يعتبر أنها تقيّد الولايات المتحدة الأميركية.
من هنا، ومع هذا التأرجح الدولي الحالي في ملفّ الأسلحة النووية، مع انسحاب الرئيس ترامب (الجمهوري) من أغلب المعاهدات المتعلّقة بهذه الأسلحة، والمترافق مع إجراءات روسية غير بعيدة عن تذكية وتسعير سباق التسلّح، عبر تطوير لافت لقدرات روسيا النووية، في الوقت الّذي كان للرؤساء الأميركيين الجمهوريين دور أساسي وفاعل في أغلب الاتفاقيات والمعاهدات التي حدّت من تطوير القدرات النووية وضبطت مسارها، يبقى هذا الملفّ الحسّاس مرتبطاً بمناورة دقيقة متعلّقة بحسابات عسكرية واستراتيجية لا تخضع بشكل واضح لسياسة أو شخصية الرئيس الأميركي أو الروسي أو غيرهما، بل تتعلق، وبشكل كبير، بحسابات عميقة حول السباق على النفوذ والسيطرة عبر العالم، تفرض نفسها على كل رئيس، مهما كانت توجّهاته أو شخصيّته أو سياسته.