حين تفرّخ أميركا شعبويتها الفاشية

يكشف فوز ترامب أن منظومة الحكم التي انقلب عليها، تذوّق أحلاماً وردية في حملاتها الانتخابية ومؤسساتها الإعلامية وفي أدبياتها الاحترافية بشأن حكم الشعب ومصالح كل الأميركيين، كما يتناول خطاب الحزبين الجمهوري والديمقراطي في تداولهما على السلطة.

منظومة الحكم التي يحلم ترامب بالخروج عليها لا تسمح بإقصائها عن السلطة السياسية (أ ف ب)
فوز دونالد ترامب بنتيجة حاسمة، يكشف عمق الهوّة بين الطبقة السياسية وتكتلات المصالح في واشنطن التي أيّدت هيلاري كلنتون، وبين فئات مهمّشة واسعة نجح ترامب في استثمار سخطها بدغدغة غرائز العنصرية البيضاء والحنين إلى أمجاد الحلم الأميركي الغابرة.

تعمّد ترامب أن يجاهر عالياً بما يضمره المهمّش الساخط في أحشائه الداخلية حياءاً، على ما يقول الزعيم السابق لليمين المتطرف الفرنسي "جان ماري لوبان". وفي تصويبه بحملاته على فساد الحكم ورياء المنظومة السياسية، يصيب ترامب أكثر الفئات البيضاء المضطربة من عدم الإطمئنان إلى غدها. لكنه يدفعها إلى التجييش في مواجهة الأكثر منها قابلية للكسر من الملونين والمهاجرين وفقراء النساء وذوي الاحتياجات الخاصة. وهو تقليد فاشي عريق في تجييش المتضررين من المنظومة السياسية ضد الأكثر تضرراً على سبيل أوهام العظمة في استعادة المكانة العرقية.

يكشف فوز ترامب أن منظومة الحكم التي انقلب عليها، تذوّق أحلاماً وردية في حملاتها الانتخابية ومؤسساتها الإعلامية وفي أدبياتها الاحترافية بشأن حكم الشعب ومصالح كل الأميركيين، كما يتناول خطاب الحزبين الجمهوري والديمقراطي في تداولهما على السلطة. لكنها تتكشّف عن سلطة جماعات ضغط وتكتلات مصالح متآلفة على التنافس في ما بينها. فهي تمنح غالبية المواطنين حق الاختيار في السلطة لكنها تُقصيها عن المشاركة في سلطة القرار وتوزيع الثروات العامة. ولم يُبدع ترامب إبداعاً قلّ نظيره في حملته الانتخابية الخارجة عن المألوف، إنما أخذ مألوف التسويق في الحملات الانتخابية التقليدية وذهب به إلى أقصى ظَلفه عارياً من دون خفَر في توزيع الوعود بالسراب.

في ولاية ميشيغان على سبيل المثال وهي المكلومة بأزمة صناعة السيارات وتهديد الولاية بالإفلاس، يقفز ترامب فوق حاجز القلق المصيري في تلاعبه النفسي بأوجاع القلق. فيعِد الولاية بإعادة الشركات الأميركية إلى موطنها لتأمين عمل دائم وطمأنينة مستدامة، متخطياً بذلك إجراءات باراك أوباما في إنقاذ الولاية لوقت لا يلبث أن يندثر ولو بعد حين. فهو يوزع وعوداً عرقوبية بالعودة إلى زمان مضى وانقضى، كانت خلاله أميركا تفتح أسواق العالم عنوة من دون أن تفتح بعض أسواقها ومن دون أن تنقل الشركات الأميركية أعمالها ورساميلها. والأدهى أنه يتوعَّد الشركات الأميركية بزيادة الضرائب لحثّها على إعادة التوطين كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

ولا تقل وعود ترامب بمعجزة أسطورية في ميشيغان عن وعوده بمعجزات تجاوز الطبقة السياسية وتكتلات المصالح في واشنطن. فربما يخطر له أن يجمع حوله في الإدارة الجديدة بعض "المحافظين الجدد" الذين شاركوه حملته الانتخابية أمثال رئيس مجلس النواب السابق "نيوت جينجريتش" أو "رودي جولياني" الحاكم السابق لمدينة نيويورك. وربما يحلو له الاعتماد على بعض رجال الأعمال كصديقه الملياردير "هارولد هام" أو "فورست لوكاس" و"بون بيكنز" وغيرهم.  لكن هذه المراهنات قد لا تذهب بعيداً. وفي أغلب الظن تفرض قوى الضغط والنفوذ جذب الرئيس والإدارة الجديدة إلى الاندماج في المنظومة، أو تفرض خروجه من الحكم.

منظومة الحكم التي يحلم ترامب بالخروج عليها تمتلك قوى نفوذ وسلطات اقتصادية وإعلامية وسياسية وثقافية هائلة، لا تسمح بإقصائها عن السلطة السياسية استناداً إلى مراهنة ترامب على تأييد تيار شعبوي استماله في حملة انتخابية. ولا سيما أن ترامب ليس في حوزته ما يغذي أحلام تياره الانتخابي سوى استخدام تأييده لقمع الحريات والمهمّشين في الداخل. فضلاً عن ذلك فإن منظومة الحكم ليست سلطة ونفوذ ومصالح مهولة في داخل أميركا وخارجها فحسب، إنما هي أيضاً قوة عظيمة وتقاليد موروثة في حفظ الاستقرار والقدرة على تنفيس الاحتقان والاحتجاجات والأزمات. فهي إذ تتعرّض إلى تهديد من خارج المنظومة، ربما تفسح المجال لنفاد الحركة الاحتجاجية في وجه الإدارة الجديدة.

في أميركا بموازاة منظومة الحكم والتيار الشعبوي، حركة احتجاجية عريقة تنامت منذ واقعة "سياتيل" العام 2000 لمناهضة العولمة المتوحشة، وصولاً إلى حملات "احتلوا وول ستريت". وبموازاة نمو الفاشية قد تتنامى حركة مواجهة.