غوتيريش الأمين العام القادم من المخيمات

في عهد غوتيريش قد نشهد تغيرات جوهرية في مناصب الأمم المتحدة. الصين تريد قيادة عمليات حفظ السلام التي كانت في يد الفرنسيين، وروسيا تريد منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية الذي يشغله حاليا الأميركي جفري فلتمان.

غوتيريش أمضى عشرة أعوام (حتى ٢٠١٥) مفوضا ساميا لشؤون اللاجئين.
    لم يأت التوافق الدولي على أنطونيو غوتيريش كأمين عام جديد للأمم المتحدة فقط لأن الرجل خبير وقريب من القلوب. بل لأن الأمم المتحدة تحتاج في زمن التناحر المتّسع إلى الكثير من الخبراء في الشؤون الإنسانية الذين خبروا المعاناة وشاهدوا بأم العين كيف تمرغ الكرامة الإنسانية في وحول المخيمات.  غوتيريش أمضى عشرة أعوام (حتى ٢٠١٥) مفوضا ساميا لشؤون اللاجئين. واللجوء والهجرات الجماعية سمة تكبر كثيرا في القرن الواحد والعشرين. فهل يكون دور الأمم المتحدة التي فشلت في درء أي نزاع مسلح، أو حل حتى مشكلة إيرلندا وبريطانيا لو أنيطت بها، مقتصرا على الإغاثة والأعمال الإنسانية؟ وهل سينتقل حل الصراعات إلى مؤتمرات إقليمية ودولية خارج إطار المنظمة التي ولدت من سحب دخان حربين عالميتين ووضعت هدفها منع السير نحو حرب عالمية الثالثة؟ في عمرها الواحد والسبعين تبدو الحرب العالمية الثالثة محتملة أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد مستحيلة. هناك سباع جاعت، وهناك فرائس ضعيفة تكاثرت. ومن عبر التاريخ أن التناحر بين السباع يبدأ بعد ضمان اصطياد الطرائد. قبلها تنسق السباع الصيد بينها وتتعاون.  في النظام العالمي، مخطئ من يتصور أن أعداد الضحايا تغير المعادلات والمواقف وتجمع الدول ضد القاتل المنتهك لقوانين الحرب والقانون الإنساني الدولي وإعلان حقوق الإنسان. إنه نفس القانون الذي تحدث عنه إبن المقفع وميكيافيلي وحتى معاوية بن أبي سفيان وداروين. القرار والبقاء للأقوى. وضحايا الضعفاء لا تحسب تماما مثل موت الفقير الذي لا يسمع به أحد. صورة الغابة الدولية تكبر وتصغر مقابلها أناقة الوثائق والقوانين والمحاكم الدولية. حاولوا تنظيم فوضاها منذ أكثر من قرن، ولا يبدو أن جهودهم تكللت بالنجاح إذا نظرنا إلى النتائج.   كثيرة هي الأزمات التي تمر في العالم اليوم. كما لو أنه عاد إلى ما كان عليه قبل الأمم المتحدة بل إلى ما قبل ١٨٨٤.  في ذلك التاريخ المنسي، رغم أهميته الكبرى، إجتمعت كل الدول الكواسر في برلين بدعوة من أتو فون بسمارك، أول مستشار ألماني.  كل الدول الإستعمارية شاركت في المؤتمر. اجتمعت بريطانيا مع روسيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا وألمانيا وسائر الدول التي كان يقال عنها أنها دول. اتفق الزعماء بعد أشهر من الإجتماعات واللقاءات على أرفع المستويات على تقسيم العالم إلى قسمين، الأول إلى دول ذات حدود وتاريخ وثقافة وحضارة وقدرة، والباقي أراضي مشاع. والأراضي المشاع تصلح بتقسيمهم لأن تصبح نهبا للدول المتقدمة صناعيا بالتفاهم بينها.  النظرة كانت متجهة أكثر إلى القارة السمراء حيث التنازع الإستعماري كان على أشدّه. أراد الملك البلجيكي ليوبولد الثاني انتزاع اعتراف دولي بجمهورية الكونغو التي شكلها من تحالفات بين القبائل. وقسمت القارة الأفريقية بناء على نتائج المؤتمر إلى مناطق نفوذ ومستعمرات لا تزال تعاني القارة من نتائجه حتى اليوم.  لسنا هنا لمراجعة التاريخ، لكن من الضروري العودة إلى هذه الفصول لكي نستوعب ما يحصل في كل المناطق الساخنة التي فشلت الأمم المتحدة في فضّ نزاعاتها أو التخلص فعليا من الإستعمار فيها.  بنتيجة تأسيس دولة الكونغو قتل الملك ليبولد الثاني نصف شعبها وكان يعد بالملايين لأنهم لم ينصاعوا تماما لزراعة غابات المطاط فقط لكي يلبوا حاجة صناعة الإطارات النامية. وبعد نيل الكونغو استقلالها بعقود لم يعد أحد يتابع عدد القتلى من النزاعات التي تغذيها الدول الإستعمارية مثل فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما في الكونغو. عدد القتلى منذ ١٩٩٩ فقط تجاوز ٥ ملايين نسمة ولا يبدو أن الأزمة هناك ستجد طريقها للحل عما قريب. احتلال أفريقيا وتقسيمها بدأ ببعثات إنسانية وعلمية قادها هنري ستانلي، الباحث البريطاني الذي توسط بين بلجيكا والإمبراطورية البريطانية آنذاك لجمع المصالح ووقف التناحر. في جارتها رواندا حصلت مجازر في تسعينيات القرن الماضي حين بدأت قبائل التوتسي الهجوم على قبائل الهوتو وقتلت منهم عشرات الآلاف. كان رجال التوتسي مدعومين من فرنسا. ولما تغلبت قبائل الهوتو وقتلت مئات الأولوف منهم، تحدث العالم عن مذبحة التوتسي. التوصيف كان يناسب فرنسا رغم أن المذابح بحق الهوتو سبقت. الفارق كان عدديا في القتل، لكنه سياسي على مستوى العالم. بالطبع الأمم المتحدة تعبر عما يتفق عليه الأسود في مجلس الأمن الدولي، وليس أمام النعاج والغزلان والزراف إلا القبول. بهذا المعيار أيضا يُسمى الفلسطيني الذي يضرب الجندي الإسرائيلي المحتل بحجر أو رصاصة، إرهابيا على لسان الأمين العام للأمم المتحدة. أما قتل الجندي لطفل فلسطيني أو حرقه من قبل جنود أو مستوطنين محتلين فيسميها عنفا.  بان كي مون الأمين العام المغادر في نهاية السنة، برع في إتقان الدرس الأميركي الداعم بشكل مطلق للإحتلال الإسرائيلي. وكان يستخدم توصيف الإرهاب بحريّة بالرغم من أن الأمم المتحدة فشلت في تعريف الإرهاب. هل يستطيع أعمى وصف لون لم يره؟ لهذا لم توصف مجازر إسرائيل بأنها مجازر. وعندما خرج تقرير عن مجزرة قانا عام ١٩٩٦ ليتهمها بقصف مركز الأمم المتحدة وقتل المدنيين فيه عمدا عوقب الأمين العام السابق بطرس بطرس غالي بعدم التجديد له.  كما في الغابة يحتاج النظام العالمي إلى ملك أو كراز، لكي يعمل حتى بالإعوجاج الذي نشاهد. وبعد إنهيار الإتحاد السوفياتي كان هناك الكراز الأميركي ذو القرنين النوويين يسير فتسير أوروبا وآسيا وبقية القارات من خلفه. خلال تلك الفترة وحتى اندلاع الأزمة، بل "حرب سوريا" كان كل ما تقوله الولايات المتحدة وتريده يتحقق خاصة وأن الإرهاب الوهابي الأعمى وفر لها كل الذرائع اللازمة بهجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر ٢٠٠١.  وتيرة القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي منذ تسعينيات القرن الماضي تسارعت بشكل كبير. وكانت مؤشرا على أن المعارضة تضاءلت وهيمنت الدولة على النظام العالمي بشكل ساحق.  النظام العالمي فقد تلك التعددية التي خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية والتي تكرست أكثر عندما أبعدت فرموزا عن الأمم المتحدة وانضمت الصين إليها بحق النقض في السبعينيات من القرن الماضي.  تقييم عمل الأمم المتحدة يحتاج إلى كتب ولا تكفيه مقالة. والحديث عن دمقرطة المنظمة يدخل في إطار قول الحق الذي يراد به باطل. فعلى رأس المطالب لإصلاح المنظمة إبطال حق الفيتو وضم عدد أكبر من الدول إلى مجلس الأمن الدولي لكي تشارك في صنع القرارات المصيرية. على أن الثابت حتى الآن أن الديموقراطية العددية لا تصلح في النظام الدولي لكي تدعم الحقوق الثابتة المتفق عليها كما هو الحال في الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف. يكثر عدد الدول في الجمعية العامة ليصل إلى ١٩٣ من ٥١ دولة حضرت مؤتمر سان فرانسيسكو التأسيسي عام ١٩٤٥. لكن المواقف في هذه القاعة الكبرى تخضع للكثير من الضغوط والإبتزاز على كل المستويات السياسية والإقتصادية وحتى العسكرية أحيانا بحيث أن الجمعية العامة، الجهاز الأكبر والأوسع، تصدر قرارات سنوية ضد دول بعينها مثل كوريا الشمالية وسوريا وإيران على قدم المساواة مع إسرائيل، ولا يصدر قرار مثلا بحق السعودية أو البحرين ذات السجل المعتم في مجال حقوق الإنسان.  الديموقراطية هنا لا تبدو عادلة ولا مفيدة في العلاقات الدولية القائمة على توازنات يؤدي الإخلال بها إلى وقوع زلازل وموجات تسونامي كاسحة. لولا الفيتو الروسي الخامس الذي استخدم في الأسبوع الماضي لكانت سوريا تتعرض لمصير مشابه لمصير ليبيا وغيرها من الدول الفاشلة بسبب البطاقة البيضاء التي منحها رئيس الوزراء الروسي السابق ميتري مدفيدف للدول الغربية بقصف ليبيا والسيطرة عليها في القرار ١٩٧٣ عام ٢٠١١.   أنطونيو غوتيريش تاسع أمين عام للمنظمة يتمتع بالكثير من الصفات التي تناسب هذه المرحلة. إنه دمث، مسالم عطوف. أبدى الكثير من المواقف السياسية والإنسانية التي أظهرت معدنه. في أوائل الأزمة السورية خاطب مجلس الأمن الدولي بحماس مطالبا بمنع الأزمة من الخروج عن السيطرة محذرا مما نشاهده اليوم. طلب وقف العبث بسوريا والدول المجاورة. البارز في حديثه آنذاك أنه كان يدرك أبعاد الأزمة من كافة جوانبها وحمل أعضاء مجلس الأمن الدولي المؤثرين مسؤولية ما قد يحصل.    في عهد غوتيريش قد نشهد تغيرات جوهرية في مناصب الأمم المتحدة. الصين تريد قيادة عمليات حفظ السلام التي كانت في يد الفرنسيين لعقود، ويشغل المنصب حاليا هيرفي لادسو. وروسيا تريد منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية الذي يشغله حاليا الأميركي جفري فلتمان.  إذا حصلت الدولتان على المنصبين فإن الولايات المتحدة تكون خسرت مركزين مؤثرين على قرارات المنظمة الدولية وشهد العالم بداية إنحدار النفوذ الأميركي في المنظمة. نفوذ لم يقتصر على لي الأذرع وفرض الإرادات، بل وصل حد التجسس على مكتب الأمين العام نفسه، وعلى إقفال حسابات البعثات الدبلوماسية في المصارف الأميركة وعرقلة عملها. وحجبت أيضا تأشيرات الدخول عن الكثير من الوفود، بل رفضت تعيين سفراء بناء على اعتبارات سياسية أميركية. الميثاق تم التلاعب ببنوده وفصوله بشتى الوسائل. وباتت عبارة مسؤولية حماية الدولة للمدنيين ذريعة لإعادة الهيمنة والإستعمار. غوتيريش قال في أول كلمة له بعد انتخابه إنه يشعر بالإمتنان والتواضع وبالمسؤولية. والرابح من إنتخابه هو الثقة بالمنظمة الدولية وبميثاقها الذي يعتبره أجندته.   قال إنه في السنوات العشر الماضية شاهد بإم العين مذلة اللاجئين وإمتهان كراماتهم في المخيمات، مضيفا، "مسؤوليتي إعادة الكرامة ووضعها في جوهر عملي كأمين عام للأمم المتحدة".   وأضاف إن "حلم مؤسسي الأمم المتحدة لم يتحقق بعد. تم إنجاز الكثير، لكن الطريق يبقى طويلا. يجب أن نسير على هذا الطريق معا، نحن الشعوب، وهو قابل للتحقيق من أجل الإنسانية".   وحول أزمة اللاجئين السوريين أبدى شعورا بالتألم على حال شعب كان مثالا للكرم في استقبال النازحين لا سيما الفلسطينيين الذين نالوا أعلى درجات الحقوق بين دول المنطقة. وقال "أشعر بتضامن عميق مع الشعب السوري. كنت مفوضا ساميا للاجئين وشاهدت السوريين يفتحون أبوابهم وبيوتهم وقلوبهم لملايين اللاجئين من العراق، ولا ننسى للجائين الفلسطينيين حيث حظوا في سوريا بأعلى مستوى من الحقوق بين دول المنطقة. وأن أرى السوريين يعانون إلى هذا الحد يحطم قلبي تماما. أقول أنني سأبذل قصارى جهدي لأخدم السلام للشعب السوري".