معركة الموصل.. كل الطُرق تؤدّي إلى سوريا

لا داعي للتذكر بالأولويات قالها العراقيون بين السطور، لكن حاضراً كان حاضراً في بديهيته وقرّر أن يغمز بوضوح: أزمات المنطقة من أزمة سوريا. أزمتنا تُحل بزوالها، وأزمات المنطقة بزوال الأزمة السورية.

الضيف الأميركي تفاجأ بأن بغداد منشغلة أكثر من الأميركي بمرحلة ما بعد التحرير
ماذا هَمَسَ بريت ماكجورك لنائبه تيري وولف؟، ولماذا طلب مستشار في وزارة الدفاع مشاهدة محطّة عربية أثناء الإجتماع.

سريعاً وصل المبعوث الرئاسي الأميركي إلى بغداد ومن دون موعد سوى مسمار جحا المعلّق في عمليات التحالف الذي تقوده واشنطن.. من مطار بغداد إلى السفارة الأميركية عبر الطيران المروحي انتقل يرافقه نائبه تيري وولف.. وبعد سلسلة لقاءاته.. لم يخفِ الرجل أهمية التنسيق قبلاً استعداداً لعاصفة تحرير الموصل حيث المعركة الكبرى لطرد داعش من مركز نينوى.. تحدّث عنها أكثر من العراقيين.. أسهبَ في أهمّيتها كما لم يُسهب أبو نوّاس في وصف الخمر.. التفّ حديثه لضرورة ضبط التوقيتات وصارح بشكل مُباشر.. هَمَسَ بصوتٍ يسمعه الحضور مذكّراً نائبه بأن محطّتهما في المنطقة تتضمّن لقاء الأمير محمّد بن سلمان بعد مُغادرة العراق.

بغداد استبقت وصول الرجل ومن أدّى دور نائبه اليوم أكثر من أي وقت مضى.. لم تكن أكثر وضوحاً إلا حين أعلن رئيس حكومتها أن الحشد قوّة تُشابه جهاز مُكافحة الإرهاب في تموز الماضي.. وهي إذ تُعلن في أية مناسبة لا تفوتها عن دور الحشد فإنما تكسر جواً سياسياً يُراد له أن يُساق، أو على الأقل يُروّج له، عنوانه ما من ضرورة لمشاركة الحشد الشعبي وفصائله في معركة الموصل.. وهنا تتقاطع واشنطن كثيراً مع حلفائها المحليين، وتستعجل تقديم عرضها بتحديث وصيانة قاعدة القيارة جنوب الموصل والتي تحرّرت بيد عراقية، فكانت تحمل مفاجأة للتحالف من دون غيره، وهي (أي واشنطن) مُحرجَة في توقيت دخول المعركة. فهي تريد لها أن تقدّم جرعة إضافية للمرشّحة هيلاري كيلنتون، وهي تريد للموصل أن تتحرّر قبل الانتخابات الأميركية والوقت لا يسعف أحداً حينما يكون الحدث أكبر منه. لكنّها واشنطن وبلعبتها مع بغداد تريد مسك محور الجنوب بوجود عسكري أميركي أقرب من أية مسافة إلى الاحتلال، الهدف الأوليّ.. قطع الطريق على حلفاء طهران في كسب المعركة ومنع الحشد من المشاركة أو خفض هذه المشاركة إلى الرمزية، وهو ذاته محور الجنوب الذي منه يمكن لواشنطن أن تلعب دوراً أوسع في مرحلة ما بعد داعش .

ما تفاجأ به الضيف الأميركي والحضور، أن بغداد مُقتنعة تماماً أن معركة الموصل وكسبها باليد خلال طول المعركة، وإن بغداد مُنشغلة أكثر من الأميركي بمرحلة ما بعد التحرير، وإن غلق الملف في حرب داعش سيكون بعد تحرير الموصل. لكنّه لن يكون سوى غلق للملف العسكري، فهناك سياسة واقتصاد وصراع نفوذ وحرب أشقاء، وديمغرافيا داخل وخارج الحدود. ما هي إلا ملفّات ومعارك سياسية أخرى، وإن الأميركي قبل أن يغمز التقطت بغداد الإشارة تسريباً متعمّداً أن هناك ما تبحث عنه واشنطن لضمان الضفة الشرقية لحدود العراق وسوريا بما أمكن لدرجة أن يبقى العراق بعيداً عن أي دور دعم لسوريا عبر البر، وإن على أهل الدار الانشغال بما هو داخل الحدود، في استدعاء لملفاّت من قلب سبعينات القرن الماضي .

ما أتقنه الحضور العراقي في جلسة الغمز والتقاط الإشارات أكثر مما أتقنه الضيوف، طلب العراقيون عدم البحث في ما وراء الحدود أكثر من أهل الدارين هنا وهناك، وإن أصل البحث هو دور التحالف في دعم العراق وما يمكن توظيفه من إمكانات للمعركة، بما فيها التأثير على حلفاء واشنطن في المحيط العراقي لجهة الضغط الإعلامي، وفي هذه الأثناء طلب مستشار عراقي أن يتنبّه الضيوف لما تعرضه الشاشات الإخبارية وكيف تُسهم في خلق جو مُغاير لمحاربة الإرهاب .

"طالما فتحت سيرة ما بعد داعش، فلنتحدّث قليلاً". يُضيف ماكجورك: المناطق فيها ضرورات تبدأ من الإعمار ولا تنتهي بالنازحين، وواشنطن تعلم أن بغداد وضعت خططاً لذلك وإن أوليّة لكنّها تساند حلفاءها وتعتقد أن الفرصة ستّتاح أكثر أمام الدستور العراقي في أن يُترجم الفيدرالية. كما إنها تجد في مأسَسَة الحشد الشعبي خطوة عملية لرسم دوره تحت إشراف الحكومة العراقية كإشرافها على أبناء العشائر الغربية وسلاحهم، ولذا لا بدّ من حسم للأزمة السياسية الحالية بطريقة توافقية من دون إضرار بالعملية السياسية بما يُمهّد لأرضية مُناسبة لمرحلة ما بعد التحرير. هنا عَلِمَ الحضور أن الرجل يحمل في أجندته الكثير، وأن المجال لو توسّع لتوسّع في شرح المواقف، وإنه تحدّث صراحة عن أهمية التركيز على الداخل، وفي حديثه كلما اقترب من تلعفر وسنجار وربيعة والقائم وصولاً إلى الحدود السورية تبدأ الضبابية وتحوّل إلى مُتحدّث إعلامي أكثر منه مُفاوض في غرفة غُلّقت أبوابها.

.. لا داعي للتذكر بالأولويات قالها العراقيون بين السطور، لكن حاضراً كان حاضراً في بديهيته وقرّر أن يغمز بوضوح: أزمات المنطقة من أزمة سوريا. أزمتنا تُحل بزوالها، وأزمات المنطقة بزوال الأزمة السورية.