الاتفاق النووي يهتز وطهران: المشكلة في الخداع الأميركي
القرار الأوروبي والآسيوي بالتطبيع السياسي والاقتصادي مع إيران كان نتيجة الاتفاق النووي، لكنّ المشكلة الرئيسيّة أنّ معظم الاتفاقيّات، تحديداً مع الجهات الأوروبيّة، بقيت حبراً على ورق بسبب التضييقات الماليّة الأميركيّة على إيران. وعلى مستوى المنطقة كان التعويل أكبر على انعكاس إيجابي للاتفاق على الساحات المشتعلة وهي اليمن، وسوريا، والعراق، والبحرين، وحيثما للأميركيين والإيرانيين أصدقاء وحلفاء، لكنّ الذي حصل أنّ الاتفاق رفع من منسوب الحساسية بين جيران الخليج.
وقبل أيّام قليلة قرّر الكونغرس الأميركي أن يتصدّى لصفقة بيع شركة بوينغ عشرات الطائرات إلى إيران إضافة إلى قطع غيار لطائراتها. وبدا قرار الكونغرس موجّهاً ضد الرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته بشكل رئيسي، تحديداً أولئك الذين كانوا يراهنون على فتح صفحة جديدة مع إيران، لكنّ القرار لم يصب أوباما فحسب، فشظاياه وصلت طهران واضعة الرئيس حسن روحاني وإدارته، لا سيّما وزارة الخارجيّة الإيرانيّة، أمام تحدّي إقناع الرأي العام الذي كان صائباً. وقبل أيّام كانت مؤسسة Iran Poll، التي تتوزّع مكاتبها بين تورنتو الكنديّة والعاصمة الإيرانيّة طهران، تنشر استطلاعاً للرأي أجرته في الجمهوريّة الإسلاميّة حول مستوى الرضا الشعبي على الاتفاق بعد عام من الإعلان عنه فكانت النتيجة أنّ 74% قالوا إنّ لا شيء تغيّر وتراجع مستوى القبول بالاتفاق من 73% عند الإعلان عنه قبل عام إلى 63% بينهم فقط 22% يؤيّدونه بقوّة.
وفي دردشة يوم الثلاثاء 12 تموز/ يوليو 2016 قال مسؤول إيراني رفيع لعب دوراً رئيسياً في الوصول إلى الاتفاق النووي للميادين نت إنّ المشكلة ليست في الاتفاق بل في السلوك الأميركي المخادع، مضيفاً إنّ بلاده ستبقى ملتزمة بالاتفاق طالما أنّه قابل للحياة، لكنّ في حال تصاعدت الخطوات الأميركيّة، وفي حال تحوّلها إلى مدمّرة، فهي عندها لن تكون مضطرة للقبول باتفاق منهار. وربما تعكس الكلمات نوعاً من المرارة تجاه مسار يبدو في مضمونه مناسباً للجميع في حال التزامهم به، لكنّه في ذات الوقت بدأ يتحوّل إلى عبء على أحد عرابيه الرئيسيين، والحديث هنا عن الرئيس روحاني وفريقه.
لكنّ مهلاً، هل كان فعلاً الاتفاق فارغاً إلى هذا المستوى من أيّ مضمون. لعلّ قراءة سريعة في ما حصّلته إيران خلال العام الماضي مفيدة للبناء عليها في تقييم الوضع.
وخلال الأشهر التسعة الأولى من الاتفاق النووي وصل عدد الوفود الاقتصاديّة التي زارت طهران أكثر من 140 وفداً من القارّات الخمس من بينهم 71 من الولايات المتحدة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي و41 من آسيا و34 من أفريقيا. كذلك فقد شهدت المرحلة زيارات متبادلة بين إيران ودول أخرى كان أبرزها زيارة الرئيس الصيني شي جاوبنغ التي جرى فيها توقيع أكثر من 17 اتفاقيّة بقيمة 600 مليار دولار على مدى عشر سنوات. والعلاقة الاقتصاديّة مع روسيا تطوّرت أيضاً خلال هذه المرحلة ليصل حجم الاتفاقيّات الموقعة بين البلدين إلى 40 مليار دولار، كذلك فإنّ روحاني وفي زيارته إلى كلّ من إيطاليا وفرنسا وقّع على اتفاقيّات بقيمة تتجاوز الخمسين مليار دولار. إلى جانب الاستثمار الاقتصادي للاتفاق، بدا واضحاً أنّ أوروبا وإيران تتّجهان بخطوات واثقة نحو تطبيع سياسي، هكذا رأينا وزير خارجيّة بريطانيا السابق فيليب هاموند يسبق الجميع إلى طهران في أوّل زيارة لمسؤول بريطاني بهذا المستوى منذ عقد على الأقل. كذلك وصل إلى طهران وزراء ونوّاب من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والنمسا وأسبانيا وصربيا وبولندا وهولندا، إضافة إلى وزيرة خارجيّة الاتحاد الأوروبي فدريكا موغيريني.
والقرار الأوروبي والآسيوي بالتطبيع السياسي والاقتصادي مع إيران كان نتيجة الاتفاق النووي، لكنّ المشكلة الرئيسيّة أنّ معظم الاتفاقيّات، تحديداً مع الجهات الأوروبيّة، بقيت حبراً على ورق بسبب التضييقات الماليّة الأميركيّة على إيران. والصورة معقدة جداً في هذا الإطار، فالشركات التي من المفترض أن تقوم بالاستثمار في إيران أو التعامل معها عليها ألّا تقوم بتحويلات عبر المصارف الأميركيّة أو يكون لديها عقود مع شركات تأمين أميركيّة أو تستخدم الدولار في المبادلات مع إيران أو يكون من ضمن الموظّفين الذين لهم علاقة بالاتفاقيّات أميركي. والأسهل في هكذا حالة وضع الاتفاقيّات على الرف وهذا ما يحصل مع معظمها حالياً. وهذا طبعاً ولم نأت على ذكر الشركات الإيرانيّة الموضوعة على لوائح العقوبات الأميركيّة وتعقيدات العمل معها من قبل المستثمرين في الخارج.
كذلك الشق الاقتصادي مهم جداً لفهم المشهد الأعم، كون أحد الأهداف الرئيسيّة من الاتفاق النووي كان التخفيف من العقوبات الماليّة والاقتصاديّة. وفي هذا الإطار لا بدّ من الإشارة إلى أنّ صندوق النقد الدولي توقّع نمواً اقتصادياً في إيران بين 4% و5.5% خلال العام 2016 وانخفاضاً في معدّل التضخّم بنسبة 15.1%، وفعلاً انخفض معدّل التضخّم في إيران هذا العام إلى 9.5% بعدما كان في العام 2013 قد جاوز الـ 30%، وجزء من هذا الأمر مرتبط بسياسات اقتصاديّة داخليّة، وبسياسة الاقتصاد المقاوم التي يحمل عنوانها العام الإيراني الحالي 1395 هجري شمسي "عام الاقتصاد المقاوم، المبادرة والعمل".
وكانت التوقّعات لدى كثيرين أن ينعكس الاتفاق النووي تطبيعاً في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأميركيّة، بل كان المنطق السياسي في مثل تلك اللحظة التاريخيّة أن يبنى عليها لفتح صفحة جديدة بين البلدين الغارقين في بحر من التوجّس من بعضهما. وفي أصل التوجّس الإيراني من أميركا تاريخ يعود إلى منتصف القرن الماضي بسبب دور واشنطن في الانقلاب على حكومة د. محمد مصدق عام 1953 وإعادة الشاه إلى الحكم، وفي أصل التوجّس الإيراني من الغرب عموماً تاريخ يعدّ بالمئات من السنوات، لذا لم يكن سهلاً على شريحة وازنة من الشعب الإيراني الوثوق في أنّ النهاية السعيدة أصبحت قاب قوسين أو أدنى وهو ما دفع بمجموعات شبابيّة مدعومة من جهات سياسيّة أصوليّة للتعبير منذ اللحظة الأولى للاتفاق عن معارضتهم له وتنظيم فعاليّات للتنديد به. ووقتها لم يكن سهلاً سماع صوت معارض للتسوية النووية، فالجو السائد كان تفاؤلياً بامتياز والتعويل على التنفيذ مرتبط بوجود ضمانات دوليّة تبدأ بروسيا والصين وأوروبا وتصل إلى مجلس الأمن.
لم تخيّب واشنطن سوء ظن المتشائمين في طهران، فبالرغم من المرور الصعب للاتفاق في الكونغرس بفعل ضغط الرئيس باراك أوباما، ذلك لم يحل بين الكونغرس وبين التنغيص على مسار التطبيق. وبعض الحجج الأميركيّة تستدعي تجارب إيران الصاروخيّة لتبرير خطوات تصعيديّة رغم أنّ الاتفاق لم يأت إلى ذكر المشروع الصاروخي الإيراني والوفد الإيراني رفض بأيّ شكل من الأشكال خلال المفاوضات الحديث في هذا الموضوع لأنّه مرتبط بالسياسة الدفاعيّة لبلدهم. كذلك فإنّ قرار محكمة أميركيّة تسليم 2.65 مليار دولار من الأموال الإيرانيّة المحتجزة إلى عائلات قتلى تفجيرات وقعت في بيروت في العام 1983 زاد الأمر تعقيداً، الأمر الذي دفع بالرئيس روحاني إلى وصف ما وقع بالسرقة "إنّها سرقة أميركيّة فاضحة للأموال الإيرانيّة، وفضيحة سافرة تؤكّد استمرار أميركا في عدائها للشعب الإيراني".
وكلّ شهر كان يمر في طهران من دون خطوات حقيقيّة من واشنطن كان يرفع منسوب التوجّس. والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وعلى مدى الأشهر الماضية كان يضمّن خطاباته كلاماً حاسماً حول أميركا وخطأ الثقة بها وصولاً إلى وصفها بالوهم “هذا تصوّر خاطئ أنه بإمكاننا التعامل مع أميركا، ليس صحيحاً، لا يمكننا الاتكال على وهم”. وفي خطاب سابق توجّه إلى من يعوّل على أميركا في الداخل الإيراني بالقول "من يعتمد على أميركا فإنّه يرتكب خطأً وسيتلقّى صفعةً”، وقال إنّ الطرف الأميركي لم يلتزم بتعهّداته وهو ناكث للعهد، مضيفاً “علينا ألّا ننسى الدور المخرّب لأميركا، والذي خبرناه في المفاوضات النوويّة".
وعلى مستوى المنطقة كان التعويل أكبر على انعكاس إيجابي للاتفاق على
الساحات المشتعلة وهي اليمن، وسوريا، والعراق، والبحرين، وحيثما للأميركيين
والإيرانيين أصدقاء وحلفاء، لكنّ الذي حصل أن الاتفاق رفع من منسوب الحساسية بين
جيران الخليج. فالحذر السعودي من ولادة تفاهم أميركي إيراني في المنطقة دفع
بالرياض إلى المزيد من التشدّد في العلاقة مع طهران، ارتفع الصوت تدريجياً في
الخطاب الدبلوماسي، ثمّ جاءت مأساة الحجّاج في منى لترفع الخطاب الإيراني مع سقوط
أكثر من أربعمائة حاج إيراني من بينهم عدد من الدبلوماسيين والعسكريين، ثمّ جاءت
قضيّة إعدام المعارض السعودي الشيخ نمر النمر
وإحراق متظاهرين إيرانيين للسفارة السعودية في طهران لينفجر الخلاف بشكل غير مسبوق ولتقطع بعض دول الخليج والسودان وجزر
القمر وجيبوتي علاقاتها بطهران على ذات الخلفيّة. في الوقت عينه كانت الحرب في
سوريا تزداد تعقيداً والحرب السعودية على اليمن تزداد دمويّةً والحال في البحرين من
دون أفق بينما العراق غارق بين فكي الإرهاب المتنقّل ودولة داعش، كلّ هذه القضايا
لم يتغيّر وضعها بعد الاتفاق النووي لأنّها في الأساس لم تكن على الطاولة ولأنّ الاتفاق
الذي كان يعوّل عليه ليكون جسراً للثقة لم ينجح حتّى هذا اليوم إلّا في دفع المزيد
من الإيرانيين لقراءة كتاب جلال آل أحمد "غربزدگی" أو الابتلاء بالغرب.