أوروبا المستقلة: البداية من الجيش
يتبلور بزخمٍ متجدد اتجاهٌ أوروبي نحو تأسيس جيش أوروبي موحّد، لكن عقبات عديدة تعرقل تحقّقه، فضلاً عن قصور المقاربة الأمنية عن معالجة السؤال الكبير حول مستقبل القارة العجوز في عالم متحوّل.
في حين تنخرط كلٌ من القوى الكبرى والقوى الإقليمية في منافسة شديدة ومتصاعدة على النفود والمكانة والمصالح في النظام الدولي، تتنازع أوروبا نزعات متقابلة تمنعها من تحديد خياراتها الاستراتيجية بإقدام والمضي بها إلى خواتيمها، لتحجز مكانتها بوضوح في العالم الجديد.
من ناحيةٍ أولى، تنزع القوى الأوروبية الرئيسية إلى بلورة توجهات استراتيجية محددة ومستقلة تعيد إليها أدوارها التاريخية. ومن ناحيةٍ ثانية، تلوح أمام الأوروبيين فرصٌ وحاجات تدفعها نحو الصين وروسيا والقوى الناشئة. ومن ناحيةٍ أخرى، ترزح القارة العجوز ودولها المركزية تحت ضوابط تفرضها الحاجة إلى قوى أكبر تقيها المخاطر الناجمة عن صعود القوى نفسها التي تتطلَّع إلى استثمار الفرص معها.
ويزيد من اللايقين الحاكم للموقف الاستراتيجيّ الأوروبيّ اليوم ما تتلقّاه من الحليف الأميركي الّذي لطالما اعتُبر القوى الحامية للحضارة الغربية، ولا سيّما في السنوات الأخيرة التي شهدت انقلاباً أميركياً على الأسس التي قامت عليها معاهدة دول شمال الأطلسي في العام 1949، والتي ارتكزت على حماية أوروبا من المدّ الشيوعي وتبعاته في مرحلة ما بعد الحربين، والتي عادت وطُوّرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكّك "حلف وارسو"، من خلال توسيع "الناتو" نحو شرق أوروبا، وابتكار أدوارٍ جديدة له ترتبط بالحرب على الإرهاب، كمدخل لتمديد صلاحية وجوده بعد تفكّك العدو الّذي قام لمواجهته.
واليوم، وبعد مرحلة دونالد ترامب وانعكاساتها على التحالف الغربي برمّته، وانسحاب واشنطن من الكثير من التزاماتها تجاه الحلفاء الأطلسيين، ورجوعها إلى الداخل تحت شعار "أميركا أولاً"، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عادت النزعات الأوروبية، وخصوصاً في فرنسا وألمانيا، لتنشط محاولةً تأسيس موقف أوروبي أصيل تجاه القضايا الدولية، يؤسس بدوره لموقعٍ في النظام الدولي المنتظر تبلوره، تنبثق منه مؤسساتٌ وأطرٌ تنظيمية لتعطيه أسباب الحياة والتحقق على أرض الواقع.
فكرة الجيش الأوروبي
عند نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الدمار يلفّ الدول الأوروبية الأساسية التي جرت الحرب على أراضيها، وقبل تبلور الصراع اللاحق بين القوتين العظمتين، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، ساد النقاش الاستراتيجي في فرنسا حماسٌ لفكرة تأسيس جيش أوروبي مستقل يقي هذه الدول من الخطر الذي لاح في المستقبل من بزوغ الاتحاد السوفياتي كقوةٍ عسكرية وسياسية وعقائدية وصلت إلى قلب برلين.
وكانت الفكرة الفرنسية في ذلك الوقت تتمثل بتأسيس جيش يضم إليها كلاً من ألمانيا الغربية وإيطاليا وبلجيكا وهولندا (نيذيرلاند اليوم) ولوكسمبورغ، بهدف الدفاع الجماعي عن هذه الدول في مواجهة المد السوفياتي الذي بدأت تراه كخطرٍ على أنظمتها، وخصوصاً أن تلك المرحلة اتسمت بالصراع الأيديولوجي، فيما كان حضور السوفيات في أوروبا يمثل أكثر من مجرد قوة عسكرية، وأبعد من مسألة نفوذٍ سياسيٍ حاضر بوهجه بعد الانتصار على النازيين. لقد كانت موسكو في ذلك الوقت تمثّل قوة عظمى لها فكرة متمددة في كل أصقاع الأرض، وكان على الأوروبيين أن يفكروا في كيفية الوقاية من تأثيرها.
لكن الفكرة في وقتها لم تنجح لوجود عدة عوامل طاغية. من جهة، لم تكن القدرات المتبقية لدى القوى الأوروبية، لتمكّنها من فرض توجه مستقل ضمن التحالف الغربي، وخصوصاً مع الدمار الَّذي لحق بألمانيا وفرنسا بالتحديد. من جهةٍ أخرى، كانت سطوة الولايات المتحدة قد بانت بعد استخدام السلاح النووي في هجومها على اليابان، بصورةٍ لم تسمح لأية قوة أخرى أقل شأناً بالمخاطرة واتخاذ توجهات استراتيجية تستبطن نوعاً من التحدي، وخصوصاً أن الأراضي الأميركية بقيت بمنأى عن الدمار الَّذي أحدثته حرب السنوات الستّ، باستثناء ما تعرَّضت له في الهجوم الياباني على "بيرل هاربر" بدرجة رئيسية.
كما كان لحاجة الأوروبيين إلى مشروع "مارشال" لإعادة بناء الدول الأوروبية بعد الحرب الأثر البالغ في انطفاء قدرة تلك الدول على تحمّل كلفة الخيار الاستراتيجي المستقلّ الّذي لطالما مالت إليه. وإضافةً إلى ذلك، وارتباطاً بالمعطيات الثلاثة السابقة، كان تأسيس حلف شمال الأطلسي سبباً مباشراً لخفوت فكرة الجيش الأوروبي المستقل، على الرغم من تمرد الرئيس الفرنسي شارل ديغول، الذي أدى إلى خروج بلاده من البنية العسكرية لـ"الناتو" في العام 1966. لقد احتاجت فرنسا إلى 4 عقود لتعود إلى صفوف هذه البنية الأطلسية في العام 2008 في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي عرفت عنه علاقاته الوطيدة بالأميركيين.
اختلال الفضاء الأطلسي
لقد حاول الأوروبيون مراراً، وخصوصاً فرنسا، تطوير موقف خاص متمايز عن الموقف الأميركي في ما يخصّ القضايا الدولية التي يعرفون أنَّ لهم مصالح فيها قد تختلف عن مصالح قائدة التحالف الغربي، لكن هذه المحاولات كانت تبوء على الدوام بالفشل، أو تقف قبل بلوغها مرحلة القرار السيادي المكتمل، ذلك أنَّ ضوابط العلاقة الاستراتيجية مع الأميركيين كانت أقوى بصورةٍ مستمرة من حجم المصلحة المتبدّي من تلك القضايا منفردةً، ومنها مجتمعةً كسياقٍ استراتيجي يستوجب قدرات لخدمته، تفوق بدورها ما امتلكته أوروبا في العقود السابقة.
وبمعزلٍ عن الحقائق المعبّرة عن ذلك، كانت الاستراتيجية الأميركية تجاه الحلفاء الغربيين ثنائية الوسائل طوال العقود الماضية، بحيث كانت تشدّد على الروابط القيمية والثقافية وضرورة التصرف كحلفٍ حضاريٍ في مواجهة بقيّة العالم، مع ما يستتبع ذلك من إبراز لقدرتها على حماية هذا الفضاء الحضاري المتجانس من جهة أولى، بينما كانت الوسيلة الأخرى تتمثّل بتخويف الأوروبيين من عدو خارجيّ، وتستوجب مخاطر وجوده الحاجة الأوروبية للأميركيين، كالاتحاد السوفياتي أولاً، ثم روسيا بعد انهياره، وصولاً إلى الإرهاب والقوى التي تمثّله.
لكنْ مع تحول الاستراتيجيّة الأميركيّة نحو التركيز على الشرق منذ العام 2012، ثم وصول مشروع ترامب إلى الرئاسة منذ العام 2016، فقدت القوى الأوروبية (وهو ما يعبّر عنه قادة فرنسا وألمانيا بوضوح اليوم) الإحساس بقيمتها الاستراتيجية في التحالف الغربي الذي يعبّر عنه "الناتو" عسكرياً.
لقد أدى ذلك إلى تقوية النزعة التاريخية نحو فكرة الجيش الأوروبي المستقل، المكمّل للتكتّل السياسي الأوروبي ضمن الاتحاد. لقد اختلّت العلاقة ضمن التحالف الأطلسي بصورةٍ لم يعد ممكناً معها بقاء الميول الاستراتيجية خفية، كما لم تعد القوة الأميركية كافيةً لإقفال الباب على نقاش الفكرة الأوروبية بكلّيتها.
عودة الفكرة إلى النشاط
منذ العام 2017، ينشط الأوروبيون في إعادة طرح فكرة الجيش الموحد. وكما المرة الأولى، كانت مبادرة فتح النقاش فرنسيةً. ومع عودة قوى أوروبية عديدة، وعلى رأسها فرنسا، إلى تفعيل إنفاقها العسكري وتطوير وسائلها الحربية، كان موضوع الجيش الأوروبي عنواناً لا بد من طرحه على الشركاء الآخرين، في وقتٍ يشهد العالم تحولاتٍ لا تحتمل الجمود أو الثبات، فعلى أقل تقدير، تبرز حاجة ملحّة لدى الأوروبيين لإحداث حركة يستجيبون بها لتفاعلات هذه التحولات.
ومع طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتأسيس الجيش الأوروبي، وتوافقه على ذلك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قُرع جرس الإنذار لدى قيادة حلف "الناتو"، الذي اعتبر أمينه العام ينس ستولتنبرغ أنّ إنشاء جيش من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يضعف التحالف ويتسبّب بتقسيم أوروبا.
هذا التّناقض بين القوتين الرئيستين في أوروبا والقيادة الأطلسية أعاد إلى الأذهان تاريخ طرح الفكرة في العام 1950، يوم طغى عليها إنشاء "الناتو"، إلى جانب العوامل الأخرى التي سبق ذكرها، فستولتنبرغ يرى أن "ضرورة الحفاظ على الصّلة بين أوروبا وأميركا الشماليّة" أكثر أهمية من "مساهمة دفاعية أكبر لأوروبا"، مرجعاً ذلك إلى عدم امتلاك الغرب موارد كافية لإحداث ازدواجية في الوظائف بين كيانين عسكرين في الفضاء الغربي نفسه.
في بروكسل، مركز الاتحاد الأوروبي، يبدو الترحيب بالفكرة حاضراً، إذ تسود الحماسة أكثر من نصف أعضاء الاتحاد حيال المضي قدماً في تنفيذ الأمر. ممثل الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد جوزيب بوريل أعرب عن حماسته لإنشاء قسم "قوة رد سريع" داخل المنظمة يضم حوالى 5 آلاف فرد.
وعلى الرغم من أن الفكرة الفرنسية المجددة تركّز هذه المرة على حماية أوروبا من التهديدات الخارجية، فإنها هذه المرة تضيف الولايات المتحدة والصين إلى الخطر الروسي الذي شكّل ظروف طرح الفكرة للمرة الأولى. الفرنسيون يرون اليوم المخاطر المقبلة من الغرب، كما من الشرقين القريب والبعيد.
في نهاية آب/أغسطس الماضي، أكد بوريل أن دول الاتحاد يجب أن تمضي قدماً بتشكيل قوة رد سريع لتعزز استعداداتها لمواجهة أزمات مستقبلية مثلما حدث في أفغانستان، لكن معنى إضافياً أضافه، اكتسبه تصريح بوريل حين قال إن "نشر القوات الأميركية في أفغانستان في وقت قصير مع تدهور الأوضاع الأمنية هناك (قبل الانسحاب)، يظهر حاجة الاتحاد الأوروبي لتسريع جهوده لبناء سياسة دفاع مشترك"، مشدداً على أنه "يجب الاستفادة من دروس هذه التجربة".
من ناحيتها، وضعت المفوضية الأوروبية موضع التنفيذ خطة في العام 2020 للتنسيق بين الصناعات المدنية والفضائية والدفاعية. كما خصصت الموازنة الأوروبية ما قيمته مليار يورو سنوياً على مدى 7 سنوات لتمويل صندوق الدفاع الأوروبي.
وإضافة إلى ذلك، يخصص الاتحاد الأوروبي انطلاقاً من العام الجاري ما يقارب 10 مليارات يورو لصندوق تطوير الأسلحة، سعياً للاستقلالية العسكرية وامتلاك مقدار كافٍ من القدرات الدفاعية المستقلة، في حين تتعاون أجهزة استخبارات الدول الأعضاء في الاتحاد بصورةٍ حثيثة لصياغة استراتيجية مشتركة للأمن، تتضمن تحديداً واضعاً لمصدر الخطر الذي يتهدد هذه الدول. وقد وضعت تقريراً مشتركاً يعبر عن اتجاهاتها الجديدة، تحدث عنه بوريل، واعتبره "الخطوة الأولى نحو استراتيجية مشتركة للأمن الأوروبي".
عقبات في الطريق
لكن السير نحو استراتيجية أمنية أوروبية مستقلة، وكيان عسكري خاص بالاتحاد، دونه عقباتٌ عديدة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي أيضاً. وإلى جانب غياب قوات الرد السريع، والتي طرحت مسألة تشكيلها بجدية في الأشهر الأخيرة، فإن مسألة العقيدة العسكرية المشتركة تبدو أكثر فاعلية في عرقلة الفكرة برمّتها.
وفي حين تتحمس فرنسا وألمانيا، ومعهما معظم دول أوروبا الغربية، لتأسيس الكيان العسكري الأوروبي، تتردد الدول الأوروبية الشرقية، والتي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي، في التخلي عن الحماية الأميركية تحت مظلة "الناتو".
هذه الدول دخلت إلى الفضاء الأطلسي من البوابة الأميركية، لا من بوابة الأوروبيين، حتى إن دخولها إلى الاتحاد الأوروبي نفسه لم يكن وفق قرارٍ أوروبي غربي بقدر ما تمّ تحت وطأة الوهج الأميركي الحاكم للتحالف.
وإلى جانب هذه الأسباب، يفتح الموقف الجيوبوليتيكي باباً على بحثٍ مرتبط بالعلاقة مع روسيا من ناحيتين رئيستين: الأولى أمنية تتعلق بموقف روسيا من الجيش الجديد عند تشكيله، والأخرى اقتصادية-سياسية تتعلق بانعكاسات الناحية الأولى من جهة، وبالحاجة الأوروبية إلى الغاز الروسي من جهة ثانية.
في المقابل، تبقى علاقة الجيش الجديد مع "الناتو" غير واضحة، ويدخل إلى تفاعلاتها المركبة معطى آخر يتمثل بالسؤال عن علاقة الجيش الأوروبي ببريطانيا، وكيفية رؤيته لها ورؤيتها له.
لكن قبل ذلك وبعده، وفيما لو سلِم الأوروبيون من المخاطر العسكرية التي تلوح في الشرق والغرب، هل يكفي الإطار العسكري لتحديد موقع أوروبا على خارطة العالم الجديد؟ وكيف ستوازن أوروبا بين نزعتها إلى حجز مكانتها العسكرية ومصالحها الاقتصادية المتعاظمة مع الصين وروسيا والقوى الناشئة، وخصوصاً أنها تعتبر تأسيس الجيش الأوروبي ضرورة لمواجهة موسكو وبكين أيضاً؟
ماكرون يبدو مصمماً حين يقول: "لن تحترمنا الولايات المتحدة كحلفاء إلا إذا كنا جادين في موقفنا وكانت (شؤوننا) الدفاعية ذات سيادة... نحن بحاجة إلى مواصلة بناء استقلالنا الذاتي، تماماً كما تفعل الولايات المتحدة لنفسها، وكما تفعل الصين لنفسها".