أوكرانيا في استراتيجيّات الغرب.. عنوان اختلاف المسارات

الخيار الأميركي بفرض عقوبات على الدولة الروسية قد يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي.

  • تعارض يحكم الرؤى الأميركية والأوروبية للأمن الجماعي في أوروبا.
    تعارض يحكم الرؤى الأميركية والأوروبية للأمن الجماعي في أوروبا.

على الرغم من إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن التوصّل إلى اتفاق تامّ مع القادة الأوروبيين حول الأزمة الأوكرانية، فإنَّ جملة من الإشارات تدلّ على حجم التعارض بين الرؤى الأميركية والأوروبية، إذ إنَّ الموقف الأميركي الداعي إلى التصعيد في أوروبا الشرقية لم يُقابل بإيجابية لدى الجانبين الفرنسي والألماني.

وإذا عدنا إلى التعارض الذي يحكم الرؤى الأميركية والأوروبية للأمن الجماعي في أوروبا، فإنَّ جذوره تعود إلى المسعى الفرنسي الألماني الدائم لاستقلال أمني أوروبي يضمن سيادة أوروبا على مستوى القرار الدفاعي والاستراتيجي الخارجي، من دون أي تأثير للحليف الأميركي، فالأزمة الأخيرة التي عصفت بالعلاقات الفرنسية الأميركية بعد اتفاقية "أوكوس" دفعت الطرف الفرنسي إلى الإعلان بجرأة غير مسبوقة عن ضرورة البحث في استراتيجية دفاعية مستقلّة عن القوة الكبرى الأميركية.

في المقلب الآخر، لم يكن الطرف الألماني متحفظاً تجاه الطرح الفرنسي، إذ إنَّ فكرة ضرورة رسم سياسة عسكرية مستقلة فرضت نفسها مادة أساسية في السباق الانتخابي الأخير. إضافةً إلى ذلك، ساد لدى السّاسة الألمان يقين بأنَّ العراقيل التي واجهها خطّ السيل الشمالي (نورد ستريم)، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الشركات المستثمرة في هذا المشروع، ترتكز في أسسها على النفوذ الأميركي المتغلغل في القارة الأوروبية، عبر أدوات مثل حلف شمال الأطلسي أو الاتفاقيات الثنائية الدفاعية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والَّتي شرعت وجود قواعد عسكرية أميركية تتمتّع بالقدرة على المناورة والاستقلالية في القرار، من دون أيّ تنسيق مع الدول المضيفة.

من ناحية أخرى، لم يكن القرار البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي مطمئناً للأقطاب الأوروبية، إذ إنها تحسَّست من خلال هذا القرار خطراً وجودياً قد يؤدي في أيِّ لحظة إلى فرط عقده. ولمزيد من التعقيد، فإنَّ تفضيل دول أوروبا الشرقية تمتين العلاقة الأمنية والعسكرية مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأميركية على حساب الدعم المالي والاقتصادي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي، فرض ضرورة تحقيق تكامل أمني وعسكري أوروبي لطمأنة دول الاتحاد الشرقية إلى جدوى الركون إلى الاتحاد الأوروبي كفاعل مستقل من دون الحاجة إلى أيِّ دور أميركي.

وإذا كانت السياسة الأميركية في شرق أوروبا ترتكز على التصعيد في وجه الدولة الروسية، فإنَّ هذا التصعيد يرتبط بحسابات تتعلّق بالهيمنة العالمية والأحادية القطبية الأميركية المتصدعة والآيلة إلى السقوط.

أما بالنسبة إلى الدول الأوروبية، فإنها معنيَّة بتحصين حدودها الشرقية، وطامحة إلى ضمان علاقة متوازنة مع الدولة الروسية، فالحدود المشتركة الطويلة بين الطرفين تحتّم على الجانب الأوروبي ضرورة البحث عما يضمن تهدئةً وتفاهماً. 

وبذلك، يمكن القول إنَّ الاتحاد الأوروبي، ومن خلال تقدير مصالحه، لن يكون معنياً بالتصعيد الأميركي الَّذي يناور خارج أرضه، والمتيقّن بأن أيَّ انهيار أو تهديد للأمن لن يؤثر بشكل مباشر في الأمن القومي الأميركي، وإنما سيطال دولاً تشكّل في وعي المؤسّسات الحاكمة الأميركية مجرّد بيادق يمكن التضحية بها أو المساومة عليها في رقعة الشطرنج الكبرى.

على صعيد آخر، ولأنَّ فكرة الحرب لن تتوارد إلى الذهن الأميركي، لصعوبة تقدير الخسائر المتوقعة، فإنَّ الخيار الأميركي بفرض عقوبات على الدولة الروسية قد يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، فالخيار الأميركيّ، من خلال فرض العقوبات، لن يستهدف ما يعتبرونه موازياً لتدخل روسيا في أوكرانيا، بغية إقناعها بعدم جدوى هذا الخيار، ولكن المؤكد أن هذا الخيار سيستهدف المصالح الحيوية الروسية في علاقاتها الخارجية، بغية تقييد دورها الاستراتيجي العالمي المهدد لموقع الولايات المتحدة الأميركية. 

وبناءً عليه، هذه العقوبات لن تكون تدريجية ومتوازنة، وستستهدف حكماً ما يعتبره القطبان الفرنسي والألماني في الاتحاد الأوروبي مصالح أوروبية حيوية. ولذلك، فإنَّ هذين القطبين لن يكونا معنيين بهذا المستوى من التصعيد، فالقرار الفرنسي الألماني يفترض الحوار مع الدولة الروسية والوصول إلى حلول دبلوماسية تضمن، من خلال رؤيتيهما، الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي في الدرجة الأولى، ووحدة الأراضي الأوكرانية وسلامتها في الدرجة الثانية، مع الإشارة إلى أنَّ هذا القرار لا يستبعد خيار العقوبات، إنما يضعها في خانة الخيار الرديف، ليقينهما بتأثيرها السلبي المتبادل، غير أنَّ الحسابات الفرنسية والألمانية لا تتطابق مع مفهوم دول أوروبا الشرقية لواقع العلاقة المفترضة مع الدولة الروسية؛ فمن خلال تاريخ العلاقات الدولية في تلك المنطقة، يمكن القول إنَّ الهدف الدائم لروسيا القيصرية، وما تلاها مع الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى روسيا الحديثة بقيادة بوتين، كان يتمحور حول الهيمنة على هذه الدول تحت عنوان "الجوار القريب".

ولذلك، إنّ الفترة التي أعقبت الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي شهدت توجّه هذه الدول نحو حلف شمال الأطلسي، بغية الاستفادة من الحماية التي وفّرها للدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. أما فتح باب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمامها، فقد قرأته ضمن إطار المكمل والمساعد في ميادين الاقتصاد والسياسة فقط، من دون أيّ قدرة لهذا الاتحاد على تقديم ضمانات أمنية تحميها في مواجهة روسيا.

ولذلك، حصل تعارض في المواقف بين دول الاتحاد الأوروبي الغربية من جهة، ودول أوروبا الشرقية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، فالموقف الأوروبي يفترض يقيناً عدم تسامح الدولة الروسية مع أي وجود لحلف شمال الأطلسي على حدوده في أوكرانيا أو جورجيا. ولذلك، فإنه لا يرى أي فائدة من الموقف الأوكراني المدعوم أميركياً تجاه هذه المسألة، فتصنيف الدّولة الروسية انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ضمن إطار التهديد لأمنها القومي، وعدم القبول بالتراجع عن الموقف الداعم لإقليم دونباس لأسباب قومية أو ملف شبه جزيرة القرم لأسباب استراتيجية، كوّن لدى القطبين الفرنسي والألماني قناعة بعدم جدوى المواجهة مع الدولة الروسية في مجال تعتبره الأخيرة مصيرياً. ولذلك، تكوَّنت لديهما قناعة بخيار التحاور معها والبحث عن ضمانات متبادلة يشكّل الالتزام بها مدخلاً لتهدئة طويلة المدى بين الطرفين.

وإذا كان الاتحاد الأوروبي سوّق لإمكانية فرض عقوبات على الدولة الروسية، في حال قيامها بأي عمل يهدد سيادة الدولة الأوكرانية، فإنَّ تقييم هذا الموقف يندرج في خانة إظهار التكافل الأوروبي في الدفاع عن حدوده الشرقية، ومحاولة حث الدولة الروسية على تبني خيارات يصنفها الاتحاد الأوروبي خيارات عقلانية. ولذلك، إنَّ الفرق سيظهر شاسعاً بين المسارين الأوروبي والأميركي لفرض العقوبات.

وبناءً عليه، إنَّ وصف الكثير من المحلّلين الموقف الفرنسي الداعي إلى الحوار ورفض الدولة الألمانية بيع السلاح لأوكرانيا بـ"المتردّد" يفتقر إلى فهم الرؤية الأوروبية لكيفية التعاطي مع الجار اللدود، فالخيارات الأوروبية أضيق بكثير من نظيراتها الأميركية في هذا الملف، إذ إنَّ مواجهة الدولة الروسية على الأراضي الأوكرانية، وبالتالي الأوروبية، ستكون مكلفة أكثر للجانب الأوروبي مقارنة بالجانب الأميركي.

ولذلك، إنَّ الدعوات الفرنسية والألمانية إلى البحث عن استقلالية القرار الأمني الأوروبيّ لا تعبّر عن ترف الاستقلال عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، إنّما تشكّل ترجمة لاختلاف المعايير والمصالح الاستراتيجية التي ظهرت منذ احتلال العراق، ويمكن التأكيد حدّ اليقين أنَّها لن تلتقي مع انتهاء الأزمة الأوكرانية.