الحرب باستخدام "السلام".. استراتيجية التفتيت
لماذا لا تستقيم مقوّمات الصهيونية ومقولاتها مع رواية التدليس، التي تُمرّر التطبيع باعتباره شكلاً من أشكال السلام؟
-
إن الناظر إلى الأدبيات التي تناولت الصهيونية يجد أن مقوّماتها تقوم على مسارين أساسيين.
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379، في الـ 10 من تشرين الثاني/نوفمبر 1975، بتصويت 72 دولة بنعم، في مقابل تصويت 35 دولة بلا، وامتناع 32 عضواً عن التصويت، ويحدّد "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري".
وطالب القرار المشار إليه جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجيا الصهيونية، باعتبارها تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميَّين. وكثيراً ما يُستشهَد بهذا القرار في المناقشات المتعلقة بالصهيونية والعنصرية. ولاحقاً، أُلغي هذا القرار بموجب القرار 46/86 يوم الـ16 من كانون الأوّل/ديسمبر 1991. وإلغاء القرار لا يعني انتفاء العنصرية عن الصهيونية.
إن الناظر إلى الأدبيات التي تناولت الصهيونية يجد أن مقوّماتها تقوم على مسارين أساسيين. الأول هو نظرة الحركة الصهيونية إلى المحيط وبنيته ومكوناته، وهي نظرة عنصرية، تقوم على نفي الآخر واقتلاعه، لا التعايش معه أو قبول وجوده، وغايتها هي الإجلاء والإحلال، وترتكز على مفاهيم استعمارية استيطانية عنصرية غير قابلة للعيش والوجود من دون عنف، من أجل تحقيق مشروعها العدواني.
ووفق هذا المسار، ترى "الحركة الصهيونية" أن "العالم العربي، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، لا يشكّل كتلة واحدة متجانسة، إثنياً أو دينياً أو اجتماعياً، وإنما منطقة شديدة التنوع، تتكوّن من دول تتصارع في داخلها قبائلُ وطوائف وأقليات قومية وعرقية ودينية ومذهبية".
أمّا المسار الثاني، فهو نظرة الحركة الصهيونية إلى أمن الدولة اليهودية، وإلى الوسائل التي تعتقد أنها كفيلة بتحقيق هذا الأمن، على نحو مطلق، والذي هو غايتها النهائية. ووفق هذا المسار، ترى "الحركة الصهيونية" أن أمن "إسرائيل" لا يتحقق من خلال التفوق العسكري وحده، على الرغم من أهميته القصوى. ووفقاً لهذه الرؤية، يتعيّن على الحركة الصهيونية ألاّ تسمح بقيام وجود أيّ دولة مركزية كبرى في المنطقة، أو استمرارها - هذا ما يفسر العداء الإسرائيلي لمزمن لإيران -، وأن تعمل كل ما في وسعها على تفتيت ما هو قائم منها، وتحويله إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية. وهذا هو الأمر عينه، الذي تفعله وتقوم به الصهيونية، فيما يُعرَف باستراتيجية التفتيت.
لقد جرّبت الصهيونية العنف فلم تفلح في تمرير كل أهدافها. والصهيونية، بالمناسبة، لم ولن تتخلى عن العنف، وهو سلوك أصيل في مسيرتها. ويمكن هنا إحالة القارئ على كتاب الدكتور عبد الوهاب المسيري، "الصهيونية والعنف". والكتاب يتجاوز السَّرْدَ المعلوماتي لأحداث الإرهاب الصهيوني، ليُبيِّن أن هناك نمطاً أكثرَ عمقاً من الإرهاب، وهو العنف الصهيوني الذي يتبدَّى في أكثر الأشياء عمومية (نظرية الأمن)، وأيضاً في أكثرها خصوصية (الطرق الالتفافية).
لاحقاً، استدارت الصهيونية إلى التطبيع، وقد وجدته يجعل "إسرائيل" تبدو دولةً طبيعية لا تتباين عن الدول المجاورة، ويجعلها الدولة الأكبر والأقوى والأكثر قدرة على قيادة المنطقة والسيطرة على تفاعلاتها. وهذا الأمر عينه الذي تثبته إحداثيات التطبيع القائم ومخرجاته.
والسؤال هو: ما علاقة الصهيونية بالتطبيع؟ هل هما خطان متوازيان، أم نقيضان متصارعان؟
الإجابة هنا تقتضي استدعاء معادلتين. الأولى هي: مَن المستفيد من التطبيع: الحركة الصهيونية، أم الدول العربية المطبّعة؟ والثانية هي: هل تستقيم مقومات الصهيونية ومقولاتها مع رواية التدليس التي تُمرِّر التطبيع باعتباره شكلاً من أشكال السلام. وهو ما يحيلنا على ضرورة الإحاطة بمفهوم السلام في فكر الحركة الصهيونية، وإسقاط هذا الفهم على مبرّرات رواية التطبيع العربية القائلة إن التطبيع هو مدخل للسلام ولتسوية القضية الفلسطينية، علماً بأن لا علاقة بالتطبيع القائم ومقتضيات مبادرة السلام العربية، التي قُدِّمَت في قمة بيروت عام 2002، ورفضها كيان الاحتلال، جملةً وتفصيلاً.
يصف دافيد بن غوريون السلام، قائلاً "إن السلام، بالنسبة إلينا، هو وسيلة وليس غاية. والغاية هي التحقيق الكامل والتام للصهيونية". أمّا رئيس الوزراء السابق لكيان الاحتلال، وعرّاب التطبيع، بنيامين نتنياهو، فيقول إن "السلام الذي تستطيع دولة إسرائيل أن تتوقع الحصول عليه هو سلام الردع فقط". فالسلام، إذاً، هو وسيلة، وليس غاية تسعى الصهيونية إليها.
أمّا عن الرواية التي تقول إن التطبيع يمكن أن يُفْضي إلى تسوية القضية الفلسطينية ووقف الاستيطان والضمّ، كما تدّعي دولة الإمارات العربية، فإن الدفع هنا يقتضي استدعاء نقيضين، هما التسوية والاستيطان. والمعلوم أن الصهيونية ارتبطت بالاستيطان، باعتباره جزءاً منها، وأساساً مهماً في مشروعها، بل إن الاستيطان في الأرض الفلسطينية، يمثّل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية.
ويقول عضو الكنيست الإسرائيلي الأسبق، يشعياهو بن فورت، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، إن "الحقيقة هي: لا صهيونية من دون استيطان، ولا دولة يهودية من دون إجلاء العرب".
وبالتالي، فإن الادعاء، القائل إن تطبيع العلاقات بين الحكومات العربية وكيان الاحتلال يُمكن أن يساهم في تحقيق السلام في المنطقة، هو ادعاء كاذب وباطل، وتنفيه مقومات الفكر الصهيوني ومقولاته، التي تنسف الرواية العربية للتطبيع، وتدحضه الوقائع القائمة على الأرض. فالاستيطان لم يتوقف، والضمّ متواصل، بل إن حكومة الاحتلال الحالية تصف نفسها بأنها "حكومة المستوطنين". وخلال العام المنتهي، رخَّصت بناء أحياء استيطانية جديدة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وداخل مدينة القدس المحتلة. وخلال عام التطبيع فقط، أحصى تقرير صادر عن الأمم المتحدة أكثر من 17100 وحدة سكنية استيطانية يجري بناؤها، أو تم ترخيص بنائها. واختتم رئيس وزراء كيان الاحتلال، نفتالي بينيت، المشهد بالضربة القاضية، عندما أعلن في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، على وقع لقائه الرئيسَ الأميركي جو بايدن، في مقابلة مع صحيفة "التايمز" الأميركية، قائلاً "لا يمكن إقامة دولة فلسطينية، ولا يمكن الذهاب إلى السلام الآن".
إن تطبيعاً لا يُوْقف استيطاناً، ولا يمنع الضمّ، ولا يردع العربدة الإسرائيلية ضد البشر والشجر والحجر، ولا يعترف بالحقوق الفلسطينية، ويتنكّر لمبادرة السلام العربية، ومدعوماً باستراتيجية صهيونية عنصرية تتبنّى العنف والإرهاب وتستهدف تفكيك المنطقة، دولاً وشعوباً؛ إن تطبيعاً كهذا لا يتناقض مع الصهيونية فقط، بل هو تمكين للصهيونية أيضاً.