الشرق الأوسط والعملية الروسية في أوكرانيا
يشعر الحلف الروسي – الإيراني – التركي – الصيني بأنه ماضٍ في تحقيق الهدف الرئيس للعملية العسكرية الروسية، المتمثل بكسر هيمنة القطب الواحد العالمي، فهذا الحلف لا يملك خياراً سوى الانتصار.
-
الشرق الأوسط والعملية الروسية في أوكرانيا
لم يكن إعلان الرئيس الروسي انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022 مفاجئاً لأحد. لا يمكننا الفصل بين ما حدث عام 2014 عندما قامت روسيا باستعادة جزيرة القرم، وأعلنت جمهوريتين شعبيتين في لوغانسك ودونيتسك، وما حدث فجر ذلك اليوم، بل لعلَّنا نستطيع العودة إلى العام 1991 عندما قدم حلف الناتو ممثلاً بالولايات المتحدة وفرنسا وكندا وألمانيا وبريطانيا تعهّداً لآخر رئيس سوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، بأن حلف الناتو لن يتقدم إنشاً واحداً نحو الشرق.
تقدم الناتو أميالاً نحو الشرق، وانضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى المنظمة العسكرية الغربية، ولم يلقِ أحد بالاً بالاحتجاجات الروسية؛ فروسيا، كما رآها الغرب، لم تعد الاتحاد السوفياتي، ولا تشكّل تهديداً حقيقياً للنظام الغربي على المستويين العسكري والاقتصادي.
كانت عيون الغرب ترنو إلى الصين التي باتت التهديد الأكبر لسيطرة المنظومة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي، فكانت الحرب التجارية هي التي تشغل العالم طوال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب.
جاءت العملية الروسية عام 2014 لتؤكّد أنّ روسيا تجاوزت مرحلة الانهيار، ثم جاء الحضور الروسي في منطقة الشرق الأوسط من خلال التدخل الروسي في الحرب على سوريا، ليثبت أنها تطمح إلى أداء دور بارز في السياسة العالمية، وأنها أصبحت مستعدة وقادرة على أداء هذا الدور.
بعد نحو عام من المشاركة الروسية في الحرب السورية، بات واضحاً أنّ المخطط الأميركي بإسقاط حكم الرئيس بشار الأسد أصبح محكوماً بالفشل، وأنَّ على الولايات المتحدة وحلفائها تعديل خططهم لتقوم على قاعدة أنَّ الدولة السورية باقية، وأن أي صيغة للحل يجب أن تمر عبر موسكو وتوافق عليها دمشق.
رغم أنّ الروسي حاول ألا يدوس على القدم الأميركية بقوة، فلم يشارك في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، وقبل بصيغة ترضي "إسرائيل" والأردن في جنوب سوريا، وساهم في وضع مناطق خفض التصعيد في الشمال السوري موضع التنفيذ، فإنه استمر بالتمدد على الأرض بشكل جعله عمود الوسط في المواجهة بين سوريا وحلفائها، والولايات المتحدة وحلفائها، وكان قادراً في كل وقت على فرض شروطه على جميع الأطراف.
لم يكن التصعيد باتجاه روسيا في سوريا ممكناً، فتوجَّه الناتو نحو إيران، بدءاً من إلغاء الاتفاق النووي، إلى تصعيد العقوبات وتشديدها على الجمهورية الإسلامية، والتصعيد السياسي والدبلوماسي من قبل حلفاء الولايات المتحدة في الخليج.
مرة أخرى، تدخلت روسيا إلى جانب الحليف الإيراني، وتحولت العلاقة بين البلدين إلى تحالف إستراتيجي، وهو ما عبر عنه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في الآونة الأخيرة في حديث متلفز مع الرئيس بوتين: "إن العلاقة بين الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية مثل إيران وروسيا، أو أي دولة أخرى، قادرة على تخطي الكثير من المشكلات وجعلها أقوى يوماً بعد يوم".
كانت روسيا تتقدم في علاقتها مع دول أساسية في حلف الناتو، وعلى رأسها تركيا، فمنذ عام 2019 التقى الرئيسان الروسي بوتين والتركي إردوغان 9 مرات. كانت العلاقات بين البلدين قد وصلت إلى نقطة الأزمة بعد قيام تركيا بإسقاط طائرة لسلاح الجو الروسي في سوريا عام 2015، لكن روسيا التي تدرك أهمية الدور التركي في ملفات الشرق الأوسط وفي نقل الغاز إلى أوروبا، اختارت عدم التصعيد، وذهبت إلى تأييد الرئيس رجب طيب إردوغان عندما حدثت محاولة الانقلاب عليه عام 2016.
يرى مراقبون أنَّ الكرملين قرر اللعب على الخلاف التركي الأميركي بعد الموقف الأميركي السلبي أثناء محاولة الانقلاب، ورفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بتدبير محاولة الانقلاب، إلى جانب الخلاف المزمن حول الدعم العسكري الأميركي للكرد. لقد وصف الرئيس بوتين تركيا، على هامش قمة العشرين التي عقدت في الأرجنتين سنة 2018، بأنها "شريك موثوق".
بعيداً من منطقتنا، وقفت روسيا بحزم ضد العقوبات الأميركية على فنزويلا، وأرسلت عام 2019 طائرتين تحملان مساعدات عسكرية وخبراء روسيين لدعم حكومة الرئيس مادورو الشرعية في وجه الانقلاب الذي قاده خوان غوايدو. من ناحيتها، تدخلت إيران في الأزمة، وأرسلت عدة ناقلات نفط لمساعدة فنزويلا في تجاوز أزمة الوقود التي ضربت البلاد بسبب العقوبات الأميركية.
في المجمل، خسرت الولايات المتحدة جميع المواجهات السياسية والدبلوماسية في مواجهة الحلف الروسي – الصيني – الإيراني، واستطاع هذا الحلف كسب موطئ قدم في أكثر من منطقة إستراتيجية بالنسبة إلى حلف الناتو.
لذلك، كان لا بد من نقل المعركة إلى الأراضي الروسية. كانت البداية بإصدار الرئيس الأوكراني زيلينسكي مرسوماً بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 2020 يدعو إلى تطوير شراكة متميزة مع حلف الناتو، وعاد في 24 آذار/مارس 2021 إلى إصدار مرسوم بتعديل الإستراتيجية الأمنية لجمهورية أوكرانيا، بما يضمن "استعادة الأراضي المحتلة" في شبه جزيرة القرم وجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك.
تمثل الرد الروسي بزيادة الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، وتصعيد الخطاب السياسي الروسي الذي تطور إلى المطالبة بضمانات أمنية تشمل عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ونزع سلاحها.
أصبحت الحرب أكيدة، لكن موعدها بقي غير معروف، حتى فجر 24 شباط/فبراير. بدأ كل فريق يبحث عن حلفاء له، لأنها، كما توقع الجميع، ستكون حرباً طويلة الأمد. للوهلة الأولى، بدت خارطة الحلفاء واضحة للمراقب، لكن ما إن اندلعت المعارك حتى فوجئ الجميع بأن هذه الخارطة جاءت على غير ما توقعوا، وأنَّ المفاجآت كان عنوانها دولاً معروفة بتبعيتها الكاملة للولايات المتحدة.
المفاجأة الأولى كانت في موقف السعودية داخل منظمة أوبك ومجموعة أوبك+. اعتبر الغرب موقف دول الخليج المحايد في الأزمة نوعاً من الخيانة لحلفائهم الغربيين، في حين رأت دول الخليج أن توريطها في الحرب يمكن أن تترتب عليه خسائر اقتصادية وسياسية فادحة.
أدت السعودية بالذات دوراً مهماً في الوساطات بين روسيا وحلف الناتو، وحققت نجاحاً مهماً عندما ساعدت على إطلاق سراح 215 أسيراً أوكرانياً، بينهم أميركيون وفرنسيون ومغاربة، في مقابل 55 أسيراً روسياً لدى أوكرانيا.
تمكنت السعودية من استغلال العملية الروسية لاستعادة دورها السياسي الذي تراجع خلال إدارة الرئيس ترامب، وبلغ ذروة تراجعه مع نجاح جو بايدن الذي وعد بمقاطعة القيادة السعودية، وهو الموقف نفسه لألمانيا وبريطانيا، لكن الأزمة دفعت هذه الدول إلى مراجعة مواقفها، وجاء الرئيس بايدن بنفسه إلى الرياض في تموز/يوليو 2022 ليعقد قمة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تبعتها قمة خليجية بحضور الرئيس المصري والملك الأردني، لكن القمة انتهت بالفشل، ولم يتحقق الناتو العربي الذي وعد به الملك الأردني.
استمرّت تركيا في أداء دور الوسيط في الأزمة، ولعلّها من أكثر الدول التي حقّقت مكاسب سياسية واقتصادية منها. في بداية الأزمة، أدت دور الوساطة في محاولة لوقف إطلاق النار، وتمكّنت من عقد عدة لقاءات مباشرة بين المسؤولين الروس ونظرائهم الأوكرانيين.
وعلى الرغم من أن هذه اللقاءات لم تنجح في وقف الحرب، فإنها نجحت في الوصول إلى اتفاق لتصدير الحبوب الأوكرانية أو ما عُرف بمبادرة البحر الأسود التي وقعت في 22 تموز/يوليو 2022.
ما بين تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر، التقى الرئيسان التركي والروسي 4 مرات، إحداهما بفارق 17 يوماً، ما بين قمة طهران ولقاء سوتشي. هذه اللقاءات المتكررة التي تدل على عمق العلاقة بين القيادتين ترجمت نفسها على الأرض من خلال عقد لقاء بين وزيري الدفاع التركي والسوري للمرة الأولى منذ أكثر من 12 عاماً، وكذلك في تأجيل العملية العسكرية التركية ضد الكرد في الشمال السوري.
في المقابل، نجح الرئيس التركي إردوغان في إقناع بوتين بالتراجع عن الانسحاب من اتفاقية الحبوب بعد تدمير جسر القرم واستهداف سفن الأسطول الروسي المشاركة بالاتفاقية، في مقابل تعهد خطي من القيادة الأوكرانية بعدم استخدام ممر الحبوب الآمن للعمليات العسكرية.
في الجانب الإيراني، استقبلت طهران قمة ثلاثية بين الرؤساء التركي والإيراني والروسي في تموز/يوليو 2022. وقد وصفت القمة بأنها ناجحة، إذ توصل المجتمعون إلى اتفاقيات بخصوص الملفات المطروحة، وفي مقدمتها الملف السوري، بما في ذلك الاتفاق على العودة إلى مسار أستانة.
واتفق المجتمعون على التعاون الاقتصادي والأمني. وبحسب بعض المراقبين السياسيين، كانت قمة طهران الناجحة رداً روسياً على قمة الرياض الفاشلة، وشكلت النواة لحلف جديد قيد التشكل، وستكون الصين الضلع الرابع لهذا الحلف في أقرب فرصة ممكنة.
جاء رد فعل حلف الناتو على لسان وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيرلوك التي اعتبرت ظهور الرئيس إردوغان إلى جانب الرئسين بوتين ورئيسي في طهران "تحدياً لحلف شمال الأطلسي".
خلال قمة طهران، تم الاتفاق بين موسكو وطهران على إطلاق الممر بين الشمال والجنوب، الذي يربط روسيا بالهند عبر إيران. ظلت إيران تضغط من أجل افتتاح هذا الممر منذ عهد الرئيس أحمدي نجاد.
كما وقعت شركة "غازبروم" الروسية مع الشركة الوطنية الإيرانية للنفط "NIOC" مذكرة تفاهم بقيمة 40 مليار دولار، تخطط بموجبها "غازبروم" للاستثمار في حقول الغاز في كيش وشمال بارس وجنوب بارس، ما يعني أن العالم قد يكون أمام إنشاء أقوى احتكار للغاز في العالم تحت سقف روسي.
برز التعاون العسكري بين طهران وموسكو كعنوان للكثير من الأخبار والتهديدات التي طالت إيران. على الرغم من نفي إيران تزويد روسيا بأي معدات قتالية بعد بدء العملية العسكرية، فإن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكد في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أن بلاده زودت روسيا بعدد من الطائرات المسيرة قبل بداية الأزمة بعدة شهور، وأن ذلك كان في إطار اتفاقيات التعاون العسكري بين البلدين.
لكن التقارير العسكرية الأوروبية تحدثت عن استعمال المسيرة "شاهد 139"، التي يتم التحكم فيها بواسطة القمر الصناعي الإيراني "خيام"، وهو القمر الذي أطلقته إيران في آب/أغسطس 2022، أي بعد نحو 6 شهور من بداية العملية العسكرية الروسية.
في مجال التعاون الاقتصادي، وبحسب الرئيس بوتين، ازداد التعاون الاقتصادي بين بلاده والجمهورية الإسلامية بنسبة 30% منذ بداية عام 2022، وكان قد ازداد بنسبة 80% خلال عام 2021.
بالنسبة إلى إيران، وبصرف النظر عن الضجة الغربية، فقد كان الحديث عن القدرات القتالية المتقدمة لأسلحتها، وبشكل خاص الطائرات المسيرة، رسالة واضحة لخصومها في المنطقة، وبشكل خاص العدو الصهيوني، مضمونها: أي عدوان على إيران ستكون عواقبه وخيمة يصعب على العدو التعامل معها.
قوة إيران تعني أن المحور الذي تعد ضلعاً أساسياً فيه؛ والمقصود محور المقاومة، قوي أيضاً، وأن مصالحه ستكون على مائدة أي تسوية إقليمية أو دولية، وأن الأوهام التي حملتها المشاريع الاستعمارية منذ بداية ما سمي "الربيع العربي" لا مكان لها على أرض الواقع.
لا شك في أن الشكل النهائي للعالم الجديد يعتمد على نتائج الحرب في أوكرانيا، لكننا نستطيع القول إن آثار الأزمة في منطقتنا بدأت بالظهور، وأهمها تراجع الدور الأميركي، ما دفع حلفاء الولايات المتحدة إلى البحث عن علاقات وتكتلات إقليمية لحماية مصالحها، وهو ما يفسر مواقف تركيا والسعودية والإمارات.
هذا التراجع في الدور الأميركي انعكس أيضاً على الأوضاع داخل الكيان الصهيوني، إذ أدت العودة إلى المحادثات الأميركية – الإيرانية حول الاتفاق النووي إلى ازدياد المخاوف الإسرائيلية شعبياً وسياسياً، وهو ما دفع إلى استبدال اليمين الليبرالي الإسرائيلي باليمين الفاشي في الانتخابات الأخيرة، ما يعكس حالة الخوف والشعور بالعزلة التي تجتاح المجتمع الإسرائيلي.
على الجانب المقابل، يشعر الحلف الروسي – الإيراني (محور المقاومة) – التركي – الصيني بأنه ماضٍ في تحقيق الهدف الرئيس للعملية العسكرية الروسية، المتمثل بكسر هيمنة القطب الواحد العالمي. هذا الحلف لا يملك خياراً سوى الانتصار، ويبدو أنه ماضٍ في اتجاه تحقيقه.