الصين.. كل السهام أصابت أهدافها
تعيش الصين في بيئة دولية غير مستقرة، فالنظام الدولي يشهد مرحلة انتقالية هي الأخطر ربما، بانتظار ولادة نظام عالمي جديد.
-
الصين.. كل السهام أصابت أهدافها
انطلاقاً من المثل الصيني القائل: "لو أردت أن تلعب، فعليك أن تعرف قواعد اللعبة وزمنها". لم يكن الإعلان عن الاتفاق لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية حدثاً مفاجئاً، وخاصة على صعيد مراكز الدراسات والأبحاث الصينية.
لقد جرى الحديث عن ذلك عند زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وكانت التوقعات بأن ينضم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى تلك القمة.
جاء الإعلان عن التوصل إلى هذا الاتفاق برعاية صينية، ليكون إعلاناً لانخراط بكين وبشكل أكبر في قضايا الشرق الأوسط، بل سعيها للعب دور الوساطة في حل العديد من المشكلات الدولية وأهمها الحرب في أوكرانيا.
لم تكن بكين لتنخرط في ذلك لو لم تكن لديها فرص كبيرة للنجاح، خاصة أنها بغنى عن أي فشل قد يحسب عليها، ولا سيما على صعيد سياستها الخارجية، الهادئة والثابتة والمتوازنة، والقادرة على الفعل والابتعاد عن ردود الأفعال والصخب الإعلامي ما أمكن.
جاء ذلك الإعلان بعد انتهاء الصين من ترتيب ملفاتها الداخلية، ابتداء من إغلاق ملف كوفيد-19، وبدء عجلة الإنتاج في البلاد، مروراً بإعادة فتح حدودها مع العالم، وانتهاء بالتوصل إلى انتخاب الرئيس شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة تكرسه قائداً استثنائياً في الصين.
تكريسه قائداً استثنائياً يتطلب منه تحقيق إنجازات استثنائية تنتظرها البلاد، ويتشوّق الشعب الصيني لتحقيقها. ولعل ثقتهم بالرئيس شي نابعة من نهجه الثابت في وضع برنامج زمني دقيق لتحقيق كل خطوة تعهد أمام الشعب بتحقيقها. وهو ما تجلى في تحقيقه القضاء على الفقر وفقاً للبرنامج الزمني المحدد، والذي لم يستطع انتشار الوباء في البلاد إيقافه أو تأجيله.
لقد وضع الرئيس شي عنواناً لولايته الثالثة وهو "استكمال بناء الدولة" لتكون دولة عصرية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فرغم التطور والنجاح اللذين حققتهما الصين، لكنه لا يزال يرى أن الصين دولة من دول العالم الثالث، تعاني ما تعانيه من مشكلات كثيرة على الصعيد الداخلي. كما تواجه تحديات كبيرة على الصعيد الخارجي.
فالصين دولة ليست محظوظة على صعيد الجغرافيا السياسية، فهي تعيش في بيئة إقليمية مضطربة، ولها حدود طويلة مع 14 بلداً، وما يزيد من تلك المخاطر أن هذه البلدان تعيش أوضاعاً أمنية غير مستقرة، وتنذر بمشكلات قابلة للانتقال عبر الحدود في حال حدوثها.
كما تعيش الصين في بيئة دولية غير مستقرة، فالنظام الدولي يشهد مرحلة انتقالية هي الأخطر ربما، بانتظار ولادة نظام عالمي جديد. ولم تجر العادة أن يولد نظام عالمي جديد من دون مخاض عسير، وحرب طاحنة تكرس المنتصرين قادة لذلك النظام.
لقد استطاعت بكين ولعقود مضت النجاح في ما يسمى "التفكير بإيجابية" في تعاطيها مع المعطيات الدولية، بمعنى أنها لم تسع لمزاحمة الحضور الأميركي في المناطق الاستراتيجية من العالم، بل فكرت في كيفية الربح من اللعب في الهوامش على الساحة الدولية.
فذهبت للاستثمار في أفريقيا حين كان الغرب والولايات المتحدة غير مهتمين بتلك القارة، وحققت نجاحات كبيرة فيها، جعلت من القارة هدفاً للتنافس الأميركي والغربي عليها في ما بعد.
كما استثمرت في الوجود العسكري الأميركي في العالم، من خلال افتراضها أن هذا الوجود يحقق نوعاً من الاستقرار في تلك المناطق، وبالتالي يضمن لها استمرار مصالحها الاقتصادية فيها.
ولم تكن بكين في عجلة من أمرها للانخراط في التصدي للمشكلات الدولية، ولعب دور الوساطة فيها، طالما أن هناك من يقوم بهذا الدور، ويوفر عليها تبعات القيام بذلك.
وكان السؤال الأهم بالنسبة إلى دول العالم جميعاً، ودول العالم الثالث على وجه التحديد هو: متى ستكون بكين قادرة وراغبة في تحمل نفقات قيادة العالم؟ وكانت الإجابة الصينية من وجهة نظري، أن الصين ليست في عجلة من أمرها طالما أن هناك قيادة للعالم تضمن لبكين مصالحها وتحقق لها غاياتها، خاصة وأن الصين قد أصبحت دولة كبرى في ظل هذا النظام الدولي القائم، بمعنى أنها نجحت في التعامل بإيجابية معه، ولا مصلحة لها في تغييره إذا ما استمر ذلك.
لكن الصعود الكبير للصين، وصل حد تهديد القائد الدولي لهذا النظام، فلم يعد من الممكن بالنسبة إليه التغاضي عن هذا الصعود الصيني، والعمل على إيقافه، أو على الأقل عرقلته.
لكن ذلك لم يكن يسيراً، فبكين استطاعت نسج علاقاتها الاقتصادية وتشبيكها بشكل كبير مع الأعداء قبل الأصدقاء، فلم يعد بمقدور الولايات المتحدة أو الغرب عموماً، الاستغناء عن تلك العلاقة مع الصين، أو حتى إيجاد سبل لتفكيكها.
وفي العقدين الأخيرين، أصبح التخلص من الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة "كمن يطلق النار على قدميه". أما اليوم، فقد أصبح "كمن يطلق النار على صدره" ربما.
كما أصبح لزاماً على بكين أن تتقدم حفاظاً على مصالحها المتنامية، فمن ترد أن تصبح الدولة الأكبر في العالم لا يمكنها الاستمرار في البقاء خارج دائرة الصراع، وجني المكاسب الاقتصادية فقط.
من هنا، بدأت الصين بالتصدي لهذا الدور، والانطلاق نحو التدخل في المشكلات الدولية، والبحث عن حلول لها، من زاوية أنها دولة تحظى باحترام جميع الأطراف، ولا تقدم نفسها كدولة تقف مع طرف ضد آخر، ولا تفكر في استخدام القوة أو التلويح بها. بمعنى أنها تقدم نموذجاً جديداً للدولة العظمى التي تمتلك رؤية استراتيجية قوامها "الربح المشترك" لجميع الأطراف.
بمعنى أن بكين ستعمل على التخلص من "النظرية الواقعية" في العلاقات الدولية، التي كرستها الولايات المتحدة ولعقود مضت، تلك النظرية التي تؤمن بمبدأ القوة، القوة وحدها ولا شيء سواها، لتكرس "النظرية الاعتمادية" في العلاقات الدولية كبديل منها. هذه النظرية ترى أن جميع الدول تحتاج إلى بعضها بعضاً، ودور كل منها هو مكمل لباقي الأدوار وليس بديلاً منه، أو منافساً له. وبالتالي، فإن التعاون هو الطريق لتحقيق الكسب المشترك.
من هنا، فقد أطلقت بكين مجموعة من المبادرات، أولها مبادرتها للأمن العالمي والتي تضم 6 بنود، وهي مبادرة هامة ومفيدة بالنسبة إلى منطقتنا على وجه التحديد، كونها لم تغفل القضية الفلسطينية. وهي القضية التي كان لبكين موقف تاريخي مشرف منها، لجهة وقوفها مع الحق العربي، ورفضها إقامة علاقات دبلوماسية مع "دولة" الاحتلال حتى العام 1992، وبعد أن ذهب العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام بدعوة أميركية، ومن دون أن يشترطوا حضور الصين كراع لهذه العملية، وهو ما جعل الصين تعيد حساباتها وتتجه للبحث عن مصالحها أولاً، مع الاحتفاظ بموقفها المبدئي من فلسطين.
كما عملت بكين على تجهيز حزمة من المبادرات لحل العديد من المشكلات والقضايا الدولية، وكانت أولى هذه المبادرات التي توّجت بالنجاح مبدئياً، هي الوساطة الصينية بين كل من إيران والسعودية.
تدرك بكين حجم التعقيدات التي تعترض هذا الملف، لكنها في الوقت نفسه، تجد فيه فرصة كبيرة لتحسين سمعتها لدى العالم الإسلامي عبر نجاحها في تحقيق الوفاق بين أكبر دولتين إسلاميتين في المنطقة.
ففي السنوات الأخيرة، تعرضت بكين لحملة دعائية غربية روّجت لما يسمّى بـ "اضطهاد الحكومة الصينية للإيغور" المسلمين في الصين، بهدف اللعب على عواطف الشعوب الإسلامية وتحريضها ضد الصين.
ولتكذيب تلك الادعاءات، تكفي الإشارة إلى وجود 10 قوميات مسلمة في الصين، فلماذا لم يسمع أحد عن اضطهاد الحكومة الصينية سوى للإيغور؟! إن نجاح بكين في تلك الوساطة يشكل خطوة أولى في الاتجاه الصحيح لإيجاد حل للمشكلات العالقة بين البلدين.
لقد جاءت هذه المبادرة انطلاقاً من تفهم بكين لحجم هاتين الدولتين ومكانتهما، وتأثيرهما الكبير في الساحتين الإقليمية والدولية، وانطلاقاً من أن التقارب بينهما هو الطريق لحل معظم المشكلات القائمة في المنطقة. وما يعزز من فرص النجاح لهذه المبادرة، هو الرغبة المشتركة لطرفيها في تحقيق ذلك، انطلاقاً من رؤية عقلانية تحكم كلا الموقفين. وما يعزز من تلك الفرص، غياب العامل الأميركي المعطل لها، في ظل الفتور في العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة. وفي ظل انسداد الأفق أمام طهران في استعادة تنفيذ برنامجها النووي.
إن تبادل العلاقات الدبلوماسية بين بلدين لا يشكل حلاً للخلافات القائمة بينهما، لكنه يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو مد جسور للحوار والبحث عن قواسم مشتركة يمكن البناء عليها. فالصين والولايات المتحدة، ورغم وجود تبادل دبلوماسي بينهما، فإن البلدين يعيشان حالة من العداء المتصاعد، لكن العقلانية تفرض عليهما بقاء القنوات مفتوحة للتواصل ونزع فتيل التوترات. فالتبادل الدبلوماسي وسيلة بكل تأكيد، وليس غاية.