العلاقة الروسية - التركية إلى أين؟
يعدّ المسار الاقتصادي، ومظلته التجارة والتعاون الكبير في مجال الطاقة الكهربائية والنفطية، سبباً رئيساً في التقارب الروسي-التركي، وعاملاً مهماً في إرساء التوازن الهادئ بين البلدين.
-
العلاقة الروسية - التركية إلى أين؟
تطورت العلاقة بين روسيا وتركيا، وأخذت أشكالاً دبلوماسية مع تولي حزب "العدالة والتنمية" 2002 الحكم، وانتهاجه سياسة "صفر مشاكل مع دول الجوار"، ومن ضمنها الدول المطلة على البحر الأسود.
كانت تركيا قد أعادت النظر في سياستها تجاه دول الجوار في سبعينيات القرن الماضي، وبدأت تنتهج سياسة الانفتاح على الاتحاد السوفياتي وعلى الدول العربية والإسلامية، إثر تهديد الرئيس الأميركي، ليندن جونسون، بمنعها من استعمال السلاح الأميركي وعدم الدفاع عنها بعد تدخل جيشها في قبرص، إذ عدّ تدخّلها محفّزاً للتدخّل السوفياتي.
توّجت تركيا انفتاحها بافتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في أنقرة في مطلع الثمانينيات، والتحقت بمنظمة التعاون الإسلامي.
شهدت العلاقات الروسية - التركية تطوّراً بعد العام 2004، أي بعد 4 سنوات من تولي فلاديمير بوتين الحكم وانفتاحه عليها اقتصادياً، لا سيما في مجال الطاقة، وما زالت عملية استيراد الطاقة تلعب دوراً مهمّاً في التأسيس لعلاقة التقارب، إذ تعتمد تركيا على روسيا في الحصول على ما يقارب نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، 12% من الواردات النفطية.
فتحت موسكو الباب أمام الاستيراد من تركيا بعد استعادتها لجزيرة القرم، ولم تحل الخلافات السياسية بينهما في سوريا وأوكرانيا والبلقان وآسيا الوسطى دون استمرار العلاقة وتقدّمها، بفضل الاتفاقات والتفاهمات التي تضع المصالح كأولوية في ظل المتغيّرات التي يشهدها العالم اليوم.
تطوّر العلاقات بين روسيا وتركيا
يعدّ المسار الاقتصادي، ومظلته التجارة والتعاون الكبير في مجال الطاقة الكهربائية والنفطية، سبباً رئيساً في التقارب الروسي-التركي، وعاملاً مهماً في إرساء التوازن الهادئ بين البلدين.
أما عدد الشركات التركية التي تعمل في روسيا فيقدّر بـ 140 شركة تعمل في التجارة، ونحو 150 شركة تعمل في قطاع الإنشاءات، كذلك يعمل عدد من الشركات الروسية في تركيا، تحديداً في مجال الحديد والصلب والتعاون في مجالي بناء سفن الشحن والنقل البحري.
لم تشارك تركيا في العقوبات المفروضة على روسيا بعد العامين 2008 و2014 (جورجيا والقرم)، فهي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي ولا تلتزم بقراراته، لكنها في الوقت عينه، أعلنت الوقوف الكامل مع وحدة الأراضي الأوكرانية ضد التدخل الروسي، وساندت الوجود التاريخي لتتار القرم.
إبّان زيارة بوتين لتركيا عام 2014، تم توقيع مذكرة تفاهم بين وكالة الطاقة الروسية ووزارة الطاقة التركية لتطوير تكنولوجيات مصادر الطاقة المتجددة، وزيادة العمل في محطة الطاقة في "أك كويو" في تركيا، والاتفاق على زيادة التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار بحلول 2023 بعد تأجيل ذلك من 2015 إلى 2020 ثم 2023. كذلك أبدت روسيا الاستعداد لبناء خط أنابيب آخر تلبية لاحتياجات الاقتصاد التركي، ووافقت على اعتماد اللغة التركية التترية لغة رسمية في جزيرة القرم.
توجّست الولايات المتحدة الأميركية العلاقة الروسية – التركية، إثر خلافاتها مع قيادة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بعد العام 2014، أما موسكو فأبدت اهتماماً كبيراً بنزعة الاستقلالية في السياسة الخارجية التركية عن الولايات المتحدة في العراق وسوريا، لكن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية - التركية، كادت تطيح التقدم المنجز في العلاقة بين البلدين، لكن المصالح المشتركة حملت إردوغان على زيارة موسكو وتخطي الإشكالات. كذلك ساهمت مساعدة روسيا وموقفها من محاولة صيف 2016 الانقلابية ضد الرئيس التركي في رفع مستوى الثقة بين حكومتي البلدين، وفتح صفحة جديدة تم على إثرها عقد اتفاقية بناء خط الغاز الروسي المباشر عبر تركيا (ترك ستريم) في 2017، والذي افتتح رسمياً بعد ذلك بعامين.
منحت تركيا روسيا عقد إنشاء أول مفاعل نووي تركي لتوليد الكهرباء؛ واشترت منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، بالرغم من المعارضة الأميركية، وقامت تركيا- بموافقة روسية ضمنية- بثلاث عمليات عسكرية كبيرة في الشمال السوري، هي: "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، و"نبع السلام".
متغيّرات العلاقة الروسية - التركية ومآلاتها
المؤشرات الإيجابية لوضع مقاربة روسية - تركية مشتركة تجاه الأزمة السورية كانت حاضرة مند عقد قمم آستانة، والمفاوضات المباشرة والمؤتمرات التي عقدت في هذا الشأن. الوساطات الروسية المتكررة بين الحكومة في سوريا والحكومة التركية أثمرت لقاءات على مستوى الاستخبارات أولاً، ثم وزارات الدفاع وستتوّج بلقاء وزراء الخارجية على أن يتم لقاء القمة بين الرئيسين في فترة قريبة في حال ساد التفاهم.
وكانت تركيا قد رفضت بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في 24 شباط 2022 تنفيذ العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية على موسكو، ولم يلبث كبار رجال الأعمال الروس وصغارهم أن انتقلوا إلى تركيا، بعد أن أقفلت الأسواق الأوروبية أبوابها أمامهم، وجرى طرد روسيا من نظام سويفت. لقد بات واضحاً أن تركيا أصبحت الوسيط الوحيد وهو ما اتضح عندما قادت الجهود التي أثمرت إتمام الاتفاق الذي سمح باستئناف تصدير الحبوب الأوكرانية.
ساعد دور الوسيط على التوصل إلى اتفاق البحر الأسود لتصدير الحبوب في تموز/يوليو الماضي، واتفق البلدان على أن تدفع تركيا 25 % من قيمة الغاز الذي تستورده من روسيا بالروبل؛ ما يعني مساعدة تركيا على تعديل ميزان المدفوعات، وتحويل تركيا إلى مركز دولي لتوزيع الغاز الروسي، وهو قرار ذو طابع إستراتيجي.
أفق العلاقة التركية - الروسية
طرح التقارب في العلاقات التركية - الروسية، تساؤلات حول انتقال أنقرة من حلف "الناتو"، والتوجّه شرقاً بعد تصريح إردوغان بأن هدفه العضوية الكاملة في منظمة دول شنغهاي للتعاون.
تكتسب أنقرة قوتها من وجودها في حلف "الناتو"، على الرغم من نقدها كيفية تعاطيه مع مشكلاتها في أوقات الأزمات، وعدم تفعيله المادة الخامسة المتعلقة بالدفاع المشترك، لكنها لا تنوي الانتقال إلى أحلاف أخرى، فهي قررت اتباع سياسة انفتاح مالي غير محدودة على روسيا من أجل مصالحها، على أن تبقى مركزاً تجارياً على صلة كبيرة بالاتحاد الأوروبي الذي لا يزال أكبر شركائها التجاريين، وأكبر المستثمرين في السوق التركية.
لا شك في أن سياسة الحكومة التركية باتت أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة، فهي تعزز علاقتها مع دول الخليج، ودول الشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، ووسط آسيا، وتسعى إلى تأسيس علاقة أكثر توازناً مع أطراف الساحة الدولية المختلفة، تحددها المصالح التركية في الجوار الإقليمي، ولم يزل الجيش التركي ملتزماً بكونه أحد جيوش حلف "الناتو".
أما لعب دور الوساطة في الحرب الأوكرانية - الروسية فهو يتعلق بمصالحها مع البلدين وبالتوازن الإستراتيجي في البحر الأسود. تركيا تفضل المفاوضات، وهي تخشى سيطرة الجيش الروسي على القوة البحرية المهيمنة على طول الساحل الشمالي من البحر الأسود، ولا تحبذ هزيمة أوكرانيا، ولا تقبل بضم روسيا أراضي أوكرانية بالقوة، لكنها تستفيد من هجرة مجتمع الأعمال الروسي إليها بعد رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين إثر العقوبات الغربية وتدفق رؤوس أموال روسية إلى تركيا، وزيادة تسجيل الشركات الجديدة في مدن مثل إسطنبول الوثيقة الصلة بالأسواق الأوروبية.
لا شك في أن العلاقة الروسية - التركية هي علاقة تلاقي مصالح قد تدوم وقتاً طويلاً في ظل المتغيّرات الدولية، وما يمكن أن ينبثق من معطيات في ظل الحرب الأوكرانية - الروسية.