العلاقة بين أسعار الفائدة والحرب في أوكرانيا
لم تستطع الرأسمالية تحقيق أي من أهدافها بصورة كاملة، بل نكاد نقول إنها فشلت في تحقيق معظم أهدافها. تطور الأحداث في أرض الواقع يشير إلى أن انتهاء الحرب في أوكرانيا سيكون من خلال يالطا جديدة، لكنها هذه المرة يالطا اقتصادية.
-
العلاقة بين أسعار الفائدة والحرب في أوكرانيا
يبدو الربط بين الأمرين ضرباً من الفعل القسري الذي يحاول تعظيم علاقة واهية (أو غير موجودة) بين قضيتين. علّمنا التاريخ أن الحرب ليست سوى السياسة بطريقة عنيفة، بحيث يحلّ صوت المدافع مكان موائد التفاوض الدبلوماسية. كل حرب عرفها التاريخ هدفت إلى تحقيق إنجاز سياسي معين، باستثناء بعض الحروب التي يخوضها بعض دول العالم الثالث من أجل بضعة أمتار عند الحدود بين بلدين، أو مباراة كرة قدم، كما حدث بين السلفادور وهندوراس، فإن الأهداف السياسية – الاقتصادية كانت العامل المحرك لمعظم حروب العصر الحديث.
منذ نهاية القرن الماضي، يتصاعد الحديث عن حقبة القطب الواحد، وتزداد الدراسات والنظريات التي تتنبأ بانتهاء هذه الحقبة، على أيدي القوى الاقتصادية الصاعدة. ازدادت القناعة بأن العالم يسير في هذا الاتجاه مع تشكيل عدد من التجمعات الاقتصادية، مثل مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومبادرة الحزام والطريق. لكن القطب الواحد سدّد عدداً من الضربات السياسية والاقتصادية إلى هذه القوى الصاعدة، من إسقاط الحكومة الاشتراكية في البرازيل، إلى الحرب التجارية مع الصين، والعقوبات على روسيا، والحضور العسكري الرأسمالي المكثف في منطقة شمالي أفريقيا وغربي آسيا، من خلال ما سُمِّي "الربيع العربي".
في عام 1944 اجتمع ممثلو 44 دولة في غابة بريتون في الولايات المتحدة، واتفقوا على مجموعة من المبادئ المتعلقة بنظام النقد العالمي. كان تحويل الدولار إلى ذهب، ليشكل الاحتياطي الأساسي للبنوك المركزية، أهمَّ هذه المبادئ التي عُرفت باتفاقية بريتون وودز. استمر العمل بهذه الاتفاقية حتى آب/أغسطس 1971، عندما أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الانسحاب من هذه الاتفاقية من جانب واحد. كتب الباحثون عدداً من الدراسات بشأن أسباب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية بريتون وودز، ويمكن إجمال تلك الأسباب فيما يلي:
انخفاض مخزون البنك المركزي الأميركي من الذهب، الأمر الذي يشكل تهديداً لسعر صرف الدولار عالمياً.
نفقات حرب فيتنام، التي بلغت 110 مليارات دولار، الأمر الذي أثّر في حجم السيولة المتوافرة للاستثمار، وقاد إلى انخفاض نصيب صادرات الولايات المتحدة عالمياً من 24% عام 1948 إلى 13% عام 1973.
هجرة رؤوس الأموال الأميركية إلى البلدان المستقلة حديثاً من أجل الاستفادة من انخفاض تكلفة المواد الأولية والأيدي العاملة.
استفادت الولايات المتحدة الأميركية من عواقب الوقف الجزئي لتدفق النفط في السوق العالمية في إبّان الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، إذ ارتفعت أسعار النفط بنسبة 400%، فازداد الطلب على الدولار، وكان ذلك إيذاناً ببدء مرحلة ما عُرف بالبترودولار، والتي قاد خلالها الدولار الأميركي الاقتصاد العالمي، واستمرت حتى يومنا هذا.
كانت نتائج أزمة كورونا كارثية على صعيد الاقتصاد العالمي. وعلى رغم ذلك فإن خصوم المركز الرأسمالي التقليدي، وخصوصاً الصين وروسيا، استطاعوا تحقيق مجموعة من المكاسب السياسية، والعسكرية والاقتصادية. أصبح واضحاً أن المد الاقتصادي الصيني غير قابل للإيقاف، فهو بعد تفوقه في سوق الاتصالات (الصين الأولى عالمياً، وتليها الولايات المتحدة)، التي كانت تُعَدّ احتكاراً غربياً بحتاً، انطلق إلى سوق السيارات، الذي كان ذات يوم درة التاج الرأسمالي، وأصبحت الصين منفردة تبيع عدداً من السيارات (27 مليون سيارة) يتفوق على ما تبيعه الدول التسع، التي تليها في قائمة أكثر الدول بيعاً للسيارات في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، التي باعت خلال عام 2022 نحو 13 مليون سيارة، وجاءت في المركز الثاني.
كان على الولايات المتحدة اتخاذ خطوتين استراتيجيتين: سحب فائض الدولار الموجود في السوق، والذي بلغ أرقاماً خيالية، ويكفي القول إن ما طبعته الولايات المتحدة الأميركية من دولارات، منذ عام 1973 حتى اليوم، أكثر بنحو عشرة أضعاف ما طبعته منذ إنشائها حتى عام 1973. لهذا السبب، كان على الولايات المتحدة رفع سعر الفائدة لسحب أكبر كمية ممكنة من الدولارات من السوق. كذلك، فإن رفع الفوائد على الودائع البنكية، لتصبح أعلى من سعر الفوائد على السندات، سيدفع المستثمرين إلى التخلص من السندات لمصلحة الودائع. وبالتالي، ينخفض سعر السندات، وهو ما يؤمّن سحباً سريعاً للدولارات من السوق، ويؤثّر في الصين التي تُعَدّ أكبر حامل للسندات الأميركية خارج الولايات المتحدة. وتشير التقديرات الأميركية إلى أن السوق الرأسمالية قادرة على تحمل الهزات الارتدادية، الناجمة عن هذه الإجراءات، كانهيار البنوك المتوسطة والصغيرة، مثل سيلكون فالي وسيغنتشر وغيرهما.
الخطوة الاستراتيجية الثانية كانت تحويل الأزمة العالمية إلى فرصة، تتمكن من خلالها الرأسمالية من تحقيق مزيد من العوائد. وفي هذا السياق شكّلت الأزمة المفتعلة في أوكرانيا مدخلاً لحرب تحقق جملة من الأهداف، أهمها:
بيع الأسلحة لمصلحة الاحتكارات الرأسمالية، وبلغت قيمة المساعدات المباشرة لأوكرانيا نحو 160 مليار دولار، ناهيك بالمليارات التي أُنفقت على تسليح الجيوش الغربية، وخصوصاً الجيش الألماني. وبيع الأغذية والنفط والغاز للدول الأوروبية بعد إيقاع العقوبات على روسيا.
الضغط، سياسياً وعسكرياً، على الاقتصاد الروسي، وإضعاف مكانته العالمية، بسبب الإنفاق على الحرب، علما بأن الاقتصاد الروسي كان يحتل المركز السادس عالمياً في إجمالي الناتج المحلي بعد تعديله، بحسب القوة الشرائية.
وضع مزيد من العقوبات على الاقتصادات الصاعدة، التي تفرض مصالحها استمرار التبادل الاقتصادي مع روسيا، كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
رفع سعر النفط في محاولة لخلق أزمة عالمية تشبه ما حدث عام 1973.
لم تستطع الرأسمالية تحقيق أي من أهدافها بصورة كاملة، بل نكاد نقول إنها فشلت في تحقيق معظم أهدافها. تطور الأحداث في أرض الواقع يشير إلى أن انتهاء الحرب في أوكرانيا سيكون من خلال يالطا جديدة، لكنها هذه المرة يالطا اقتصادية ستدفع الثلاثي الرأسمالي التاريخي: أميركا، اليابان، اوروبا، إلى التراجع، وإعطاء الاقتصادات الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، مكانها في التأثير في الاقتصاد والسياسة العالميين.
حتى ذلك الحين سوف يستمر رفع أسعار الفوائد، وتستمر الحرب في أوكرانيا.