المنظومة الأمنية الإسرائيلية والتكتّم على الخسائر البشرية

هل يكشف المحتل عن خسائره البشرية على الدوام، كما يظن بعض المنفتحين على الرواية الإسرائيلية؟

  • المنظومة الأمنية الإسرائيلية والتكتّم على الخسائر البشرية
    المنظومة الأمنية الإسرائيلية والتكتّم على الخسائر البشرية

تعدّدت سقطات وزير الأمن الداخلي في الكيان العبري، بار ليف، ولم يكن آخر هذه السقطات ما كشفه قبل أسبوعين، عن مقتل ضابط في وحدة (سييرت متكال) في سوريا عام 1984، بما دفع الرقابة الرسمية إلى الكشف عن هويته، وهو باراك شرعبي، وكان قد سبق ذلك الإعلان عن موته في حادث سير في "إسرائيل"، ليتبيّن أنه سقط قتيلاً في عملية أمنية.

وسبق هذه السقطة ما وقع خلال تهنئته لقوات حرس الحدود، عقب اغتيال مقاتلين من سرايا القدس في جنين، وهي العملية التي اكتفى المحتل بالاعتراف فيها بإصابة قائد قوة يمام، فإذا بالوزير يختم تغريدته بالتعاطف مع عائلات القتلى، مع تمنّي الشفاء للجرحى، وهو ما أثار زوبعة من تعليقات المستوطنين، وقد نعتوه بالجنون والخيانة، لعدم وجود قتلى في العملية.

هل بالفعل لم يسقط قتلى في تلك العملية؟ وهل يكشف المحتل عن خسائره البشرية على الدوام، كما يظن بعض المنفتحين على الرواية الإسرائيلية؟

لم تكن سقطات بار ليف هي الوحيدة في هذا الخصوص، فقد كشف قائد فرقة بنيامين في جيش الاحتلال، عن إصابة اثنَي عشر جنديّاً خلال مواجهات في مخيم قلنديا، تطلّب الأمر نقلهم إلى المستشفيات، وجاءت هذه السقطة بعد عدة أشهر من الحادثة، في معرض تبرير إطلاق "الجيش" النار بشكل عشوائي، متذرّعاً بأنه تمّ كشف تسلّل أربعين جندياً، ومحاصرتهم من قبل الأهالي.

وقبل عام مضى، كشف أرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلي أن أربعة عشر قتيلاً إسرائيلياً سقطوا بالصواريخ العراقية التي ضربت الكيان العبري عام 1991، فيما ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت، نقلاً عن موقع النصب التذكاري لضحايا "إسرائيل"، أن عدد القتلى الإسرائيليين أعلى من ذلك، وربما يصل إلى أربعة وسبعين، علماً بأن الكيان العبري اكتفى بالحديث وقتها عن ثلاثة قتلى.

ويمكن تلمّس الخبر الذي بثّته القناة السابعة الإسرائيلية، عام 2017، في تتبّع الكذب الإسرائيلي، وهو يفيد بأن ستّة جنود قتلوا في ظروف مختلفة خلال شهر حزيران/ يونيو، إمّا بانقلاب مركباتهم، أو بموت مفاجئ، أو بانفلات رصاصة بالخطأ، أو بانتحار. وقد انتهى الخبر بهذه الصياغة الغريبة، وهو ما لم تترتّب عليه عمليات تحقيق، أو حتى تحديد أماكن مقتلهم وأزمنته المحدّدة، في دولة شديدة الحساسية تجاه الخسائر البشرية، وخاصة في مجال قواتها الأمنية.

وفي الفترة الزمانية ذاتها، لسنة 2017 وما سبقها من سنة 2016، تتبّعت الصحافة العبرية، عشرة حوادث أعلن عنها بشكل عرضي متناثر، وكلها وقعت في الجولان السوري المحتل! قُتل من قوات "الجيش" فيها ستّة وأصيب سبعة عشر، من دون تفاصيل، باستثناء القول مثلاً إن جنديين قتلا في انفجار قنبلة بشكل عرضي، أو مقتل ضابط وجندي وإصابة أربعة آخرين إثر حادث تدريب انقلب فيه مدفع.

ولوحظ في تلك الفترة الزمانية قيام المسؤولين الإسرائيليين بإقامة عدة حفلات تكريم لضباط وجنود عملوا "خلف الحدود"، في ظل احتدام الحرب على سوريا، وقد ثبت قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتقديم خدمات لوجستية وعلاجية واسعة لمسلحي المعارضة، بما يشير إلى خلفية ما يعلن عنه من حوادث عرضية يسقط فيها جنود إسرائيليون، بشكل متتابع وغير مقنع في محاولة التخريج الإعلامي.

ومنذ عام مضى، كشف الكيان العبري عن مقتل ضابط الاستخبارات الإسرائيلي يهودا كوهين بـ"رصاص مجهولين" في المكسيك، وجاء هذا الكشف عقب أسابيع قليلة مرّت على الهجوم العراقي الذي استهدف مركزاً للموساد في كردستان، وجزمت عدة وسائل إعلامية بمقتل وإصابة عدّة ضباط إسرائيليين، وهي الحادثة التي بقيت طيّ المجهول، بما يؤكد عملية ترحيل مكان مقتله إلى مجاهيل بعيدة.  

ومنذ شهور قليلة، بثّت مختلف وسائل الإعلام العبري خبراً بصيغة "سُمح بالنشر"، يفيد بأن الضابط في وحدة يمام، نيكولاي ودوبنكو، لقي مصرعه في حادث سير سابق في القدس، وسبق لهذا الضابط، بحسب الخبر ذاته، أن شارك في عدة عمليات ضد مقاومين في الضفة الغربية!

وقبل الخبر السابق بيومين، ذكر جيش الاحتلال الإسرائيلي أن التحقيق بشأن إصابة جنديّ بجروح، خلال هدم منزل الأسير محمود جرادات، أكد أن "الجيش" عمل تحت الضغط بسبب إطلاق النار الدائم، في وقت شاهد فيه الأهالي عملية نقل عاجلة لاثنين من الجنود للعلاج، وهو ما ردّدته وسائل إعلام عبرية بداية أن جداراً من المنزل سقط عليهما، ثم عادت لتتحدث عن جندي فقط، بما يؤكّد مدى الإرباك الذي حصل، نتيجة خسارة بشرية جسيمة في صفوفه، ليعود جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد أسبوعين لنسف منزلين آخرين لآل جرادات، وتبعه منذ أيام نسف منزل آخر للعائلة ذاتها.

إن تتبّع حوادث السير التي تطال ضباطاً ينشطون في الوحدات الخاصة، وكذلك تتبّع خريطة حوادث القتل الخطأ، أو برصاص قوات صديقة، أو عبر مجهولين، ويظهر الخبر بصياغة غير اعتيادية، لا يتبعه تشكيل لجان تحقيق ولا متابعة إعلامية حثيثة، في كيان يزعم أن جهازه الإعلامي يمتلك قدراً واسعاً من الحرية، بل والتأثير على أصحاب القرار فيه. إن تتبّعاً كهذا يمكنه، إن راعى الدقة الميدانية، أن يضيّق الخناق على مستوى الكذب في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، علماً بأن الكتابة في شأن كهذا يعيقها عدم توافر معطيات كاملة، إضافة إلى ما راكمه الكيان من مقولات في أوساطنا الفلسطينية والعربية، حول حرية الصحافة الإسرائيلية ودقة معلوماتها، في ظل مبالغات وتهويلات سبق للمقاومة الفلسطينية أن وقعت في حبائلها، وفي الوقت نفسه لما أنجزه هذا الكيان من صناعة طابور إعلامي ثقافي، عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: {وفيكم سمّاعون لهم}، سواء في مجال العملاء أو مراكز الأبحاث الموجهة، أو حتى المتأثرين ضمن عوامل نفسية ذاتية. ولعل جريمة اغتيال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، في جنين، وما تبعها من كذب إسرائيلي باتهام المقاومة، ثم التراجع تحت ضغط الحقيقة الساطعة، تعكس مستوى الكذب في حالات الإرباك الداخلي. 

وهناك مئات من الأمثلة والشواهد على خسائر بشرية محتملة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما يعتريها من قرائن، وهي أمثلة يمكن إخضاعها للدراسة الميدانية عبر مراكز أبحاث عربية أو أجنبية معنية متخصّصة في الداخل المحتل، وهو مجال مهمّش عند المقاومة، وفي حال تفعيله ستكون له مردودات في تحصين الحاضنة الشعبية للمقاومة، وزيادة مصداقية بياناتها، يوازيه شروخ نفسية عميقة في المجتمع الإسرائيلي، كما في منظومة (سمّاعون لهم) ومجمل الماكينة التطبيعية والغربية الموالية للكيان العبري.

الذكرى السنوية الأولى لمعركة "سيف القدس"؛ المعركة التي أحدثت تحولاً في مسار مقاومة المحتل الإسرائيلي، ونقلت المعركة معه إلى مستوى جديد، وأرست معادلات جديدة لم تكن مطروحة في السابق، وعززت حلف المقاومة كمدافع عن القدس وكل فلسطين.