باريس وبرلين تبحثان عن أوروبا
القوى الأوروبية الواقعة في نطاق وهج الحرب الأوكرانية سيتحتم عليها أن تواجه العواقب العسكرية فيما لو تطوّر الموقف. وهي التي في الأصل خسرت بمجرد اندلاع المواجهة إمداداتها من الغاز الروسي منخفض الكلفة، وتفاقمت أوضاعها الاقتصادية.
-
باريس وبرلين تبحثان عن أوروبا
مع اقتراب الذكرى الأولى لاندلاع المواجهة الكبرى بين روسيا والغرب في أوكرانيا، ارتفعت حدة التوتر العالمي بين القوتين الكبيرتين إلى ذروةٍ جديدةٍ لم يسبق أن شهدتها العلاقات الدولية منذ أوج حدة الحرب الباردة.
في الميدان، عاد الروس إلى التقدم بزخمٍ كبير في اتجاهين، الأول تشهده أرتيوموفيسك-باخموت حيث باتت القوات الروسية ومجموعة فاغنر على مشارف المدينة الاستراتيجية، والثاني ينشط في محيط مدينة زاباروجيه ويقترب منها بثبات.
على المقلب الآخر تتكبّد القوات الأوكرانية خسائر ثقيلة، فيما تراجع منسوب الثقة في التصريحات السياسية الصادرة من كييف، والتي كانت قبل أسابيع قليلة واثقةً بواقعية استعادة شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمّتها روسيا.
الحلفاء مستنفرون، ويقفون في موقف شديد الصعوبة، وفي لحظةٍ حساسة ومفصلية. يتبادلون الدعوات لإرسال الأسلحة الثقيلة والدبابات، ويتراشقون بالأعذار للهروب من إرسالها كلٌ من جانبه. لا أحد يريد أن يكون هو البادئ، ذلك أن إرسالها سيكون على حساب مخزونات جيوشهم ويؤثر على قدراتها من ناحية، ويؤدي إلى تصعيد الوتيرة بوجه روسيا من ناحيةٍ ثانية.
وفي الحالتين، فإن القوى الأوروبية الواقعة في نطاق وهج الحرب المندلعة سيتحتم عليها أن تواجه العواقب العسكرية فيما لو تطوّر الموقف. وهي التي في الأصل خسرت بمجرد اندلاع المواجهة إمداداتها من الغاز الروسي منخفض الكلفة، وتفاقمت أوضاعها الاقتصادية تحت ضغوط الأزمة المتسعة، وتزايد معدلات التضخم إلى مستويات خطرة على مستقبل اقتصاد اليورو.
وفي الوقت نفسه الذي تخرج فيه التظاهرات في فرنسا ودول أوروبية أخرى احتجاجاً على الأوضاع المعيشية وأنظمة العمل والتقديمات العامة، جاءت موجة إقالات مسؤولين أوكرانيين في مواقع حساسة على خلفية اتهامات بالفساد لتزيد من القلق حول مصير المساعدات المقدّمة إلى كييف. الآن تتسع دائرة القلق في أوروبا من أن مساعداتهم المقتطعة من موازناتهم وموازنات جيوشهم تذهب إلى ثقبٍ أسود، لا يزال بدوره يطلب المزيد مع كل تطورٍ في ساحة المعركة. وذلك في موازاة تراجع الآمال بقدرة هذه المساعدات على تحقيق نتائج حقيقية في الميدان.
وفي الميدان نفسه، شهدت الأسابيع الأربعة الأولى من مطلع العام تطورات لافتة استعادت فيها موسكو المبادرة في محورين أساسيين من محاور القتال. حيث كانت سيطرة الروس على مدينة سوليدار على محور دانييتسك مفتاحاً لكل المنطقة المحيطة، ومنطلقاً نحو المدينة الأهم فيها أرتيوموفيسك (باخموت). وبالسيطرة على بلدات سول وكليشيفكا في منطقتين مختلفتين في محيط باخموت، بات شكل الكماشة حول هذه الأخيرة يتخذ صورته شيئاً فشيئاً، ليتمكّن الروس من السيطرة إما فعلياً أو بالنار على خطوط إمداد المدينة، وأهمها الطريقH-32 ، الأمر الذي يصعّب على الأوكرانيين الدفاع عن المدينة بصورةٍ حاسمة.
وفي المحور الآخر الذي يسعى فيه الروس إلى هدف كبير وهو السيطرة على مدينة زاباروجيه، سيطرت القوات الروسية على بافلوفكا ولوبكوفايا لتصبح على مشارف المدينة. وبالمحصلة أنهى الروس فصلاً كاملاً من التراجع الميداني في المناطق التي ضموها، ابتداءً من منتصف أيلول/سبتمبر الفائت، ليشهد العام الجديد تغيّراً كبيراً في فاعلية القوات في الميدان، مدعومةً بالطائرات المسيرة بأنواعها المختلفة، الاستطلاعية، الهجومية والانتحارية.
وأدّى هذا التطوّر النوعي دوراً بارزاً في تنشيط وتدقيق حركة القوات في الميدان، لتتمكّن من إيقاع خسائر ملحوظة في صفوف القوات الأوكرانية وعتادها، علماً أن هذه الأخيرة تعاني في الناحيتين البشرية والتسليحية، من مشكلاتٍ جمة، وتتكاثر التصريحات والتلميحات إلى سوء حال المساعدات الغربية التي تصل، إضافة إلى ارتفاع الفاتورة البشرية التي تنتشر مقاطع تؤكد ما يتداول من معلومات حول حجمها.
إذاً لمسألة تسليح القوات الأوكرانية بأسلحةٍ ثقيلةٍ ونوعية أهمية متزايدة على وقع التطورات الميدانية الأخيرة. وهذا ما يفسّر إلحاح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي على الحلفاء في اجتماع رامشتاين الأخير لإرسال أحدث الدبابات بأعدادٍ كبيرة، مثل أبرامز، ليوبارد 2، تشالينجر ولوكليرك.
ومع بقاء التردّد في التصريحات الألمانية حول إرسال، أو السماح بإرسال، دبابات ليوبارد إلى أوكرانيا، تبقى احتمالات تقدّم الروس أكثر على الجبهات مرجحةً. لكن في موازاة ذلك، سارعت الولايات المتحدة إلى إصدار إشاراتٍ حول إرسالها مجموعة صغيرة من دبابات "أبرامز" إلى كييف، الأمر الذي أحدث أثراً متداعياً على الحلفاء الأوروبيين الذين أعلن عددٌ منهم عن إرسال دبابات من جهته. يحدث ذلك في حين رفعت موسكو نبرة خطاباتها التحذيرية من الكوارث التي ستأتي فيما لو توسّع هذا الصراع.
وفي هذا السياق، لا يوفّر نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف يوماً واحداً من دون تهديد الغرب مما سيأتي فيما لو استمر على إلحاحه بضرورة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وهو يؤكد أن هذا السيناريو لن يحصل، وأنّ دونه أحداثاً دراماتيكيةً سوف لن يكون ممكناً تفاديها أو العودة عنها أو إصلاح آثارها. وهذا يؤشر بالضرورة إلى إشارات ومواقف روسية سابقة عن الحرب النووية.
ومع استمرار التحفيز الأميركي للأوروبيين، وإعطاء هؤلاء جميعاً زخماً لموقف كييف في الحرب، وعدم ظهور آمال حقيقية بانطلاق المسار السياسي لحل الأزمة، يكون العالم أمام أخطر مستوى من التوتر، ومتجهاً بسرعة نحو كارثة لا يبدو لها من مانع. في هذه الأجواء، وتحت ضغوطها الهائلة هذه، وصل المستشار الألماني أولاف شولتس باريس، والتقى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بهدف النجاة بأوروبا، في الذكرى الـ 60 لمعاهدة المصالحة بين الدولتين.
لقاء القمة هذا سعى، بحسب تصريحات الطرفين، إلى "إعادة تأسيس أوروبا". أولى نتائجه كانت تجاوز خلافات وصلت ذروتها خلال الخريف المنصرم حول خط أنابيب H2Med (خط هيدروجين المتوسط) الذي سيمتد من البرتغال وإسبانيا إلى ألمانيا عبر فرنسا، وبتمويلٍ أوروبي.
وثاني نتائجه كانت الاتفاق على تنسيق قريب لمواقف الثنائي الذي وصفه ماكرون بـ "الروحين بصدرٍ واحدٍ" بما يخص شؤون القارة، وخصوصاً الموقف من السياسات الأميركية التي تمتص غذاء الاقتصاد الأوروبي وفرصه. إلى جانب عودة الحديث عن القوة العسكرية الأوروبية وتأسيس الجيش الأوروبي.
وهذه النقطة الأخيرة العائدة، لم تعد فكرةً فرنسيةً حالمة فحسب، بل إن ماكرون يبحث لها بجدية عن أسباب الحياة، خصوصاً أنها عادت إلى واجهة البحث بعد أيامٍ من كلامه عن صعود روسيا والصين والهند وامتلاكهم المشروع والطموح و"الخيال" اللازم الذي تمتلكه القوى الكبرى، وافتقاد أوروبا الحالية لذلك، وقوله إن الجميع يتقدّمون باستثناء القارة العجوز.
بالنتيجة، يبدو الألمان والفرنسيون مدركين المخاطر التي تلوح أمامهم، وهم على الرغم من عدم جواز القول إن قمة باريس بين شولتس وماكرون قد حلّت الخلافات العميقة بينهما، باتوا يعلمون بأن أي توسّعٍ للحرب في الجغرافيا والإيقاع سوف يكون على حسابهم أولاً، وأن أي تمدّد لها بالزمن والأحداث سوف يحمل معه كارثةً على اقتصاديهما، وعلى مستقبل أوروبا ووحدتها وحضورها العالمي.
لكن وإلى جانب وضوح معرفتهم بالأمر، وتعبيرهم عن إدراكهم الحلول، يبقى السؤال حول مدى قدرتهم على تحقيق مشروع الاستقلالية هذا، في لحظةٍ استراتيجيةٍ طيّعةٍ لتحرّك الحدود واختفاء الدول، وتغيّر مراتب القوى في النظام العالمي الذي يبحث عنه الجميع.