بعد تهديده لسوريا: فصائل الشمال تُلبّي نداء نتنياهو
يجدر بمحور المقاومة أنْ يكون مستعدًا للقتال والمواجهة على جبهات مستجدة ستكون سوريا أوّلها، وربما أعنفها وأخطرها، قبل أنْ يأتي دور اليمن والعراق.
لم تنتهِ الحرب بعد، لكنّ واحدةً من أعنف الجولات وأكثرها إجراماً في التاريخ الحديث، قد أُوقِفتْ قسراً، عند قدم مقاومٍ لبناني باسلٍ في أقصى الجنوب.
الإمبراطورية الأميركية، والغرب كلّه، وبعض العرب، وقفوا هناك في ظهر أدوات الدمار والوحشيّة الإسرائيلية، عاجزين عن التقدّم خطوةً واحدة، أو البقاء في أماكنهم لدقائق معدودات. ثمّة ملحمة قد حدثت بالفعل، وهي ملحمةٌ ما زالت مستمرة وتتجلّى بعض فصولها هذه الساعات، في مشاهد عودة الجنوبيين والبقاعيين وأهل الضاحية الجنوبية إلى أرضهم وما تبقّى من بيوتهم، برؤوس مرفوعةٍ وقامات منتصبة.
لم ينسَ مجرم الحرب الإسرئيليّ، بنيامين نتنياهو، في خطاب العجز الذي ألقاه قبيل الإعلان عن الهدنة على جبهة شمال فلسطين، أنْ يعود إلى تهديد سوريا بشكل واضح (بل تهديد الرئيس السوريّ بشار الأسد شخصيّاً)، والتوعّد بمزيد من الاعتداءات والجرائم على أراضيها وضد شعبها، بسبب دعمها وإمدادها للمقاومة الإسلامية في لبنان. ولم يكد مجرم الحرب الصهيونيّ ينهي كلمته، حتى بدأ العدوان الجنونيّ بالفعل على جميع المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان، بما في ذلك استهداف أبنية ومقارّ الأمن العام على الجانبين، وكذلك النقاط الطبية التي أقامتها الدولة السورية مؤخّراً لاستقبال الوافدين اللبنانيين ورعايتهم.
وقد أدى العدوان إلى ارتقاء ستّة شهداء، بينهم عسكريان وأربعة مدنيين، وعدد من الجرحى على الجانبين السوري واللبناني، بينهم أطفال ونساء وعاملون في الهلال الأحمر السوري، ووقوع أضرار مادية كبيرة أدت إلى إغلاق جميع المعابر الحدودية المستهدفة.
وقد شمل العدوان معابر "الدبّوسية" و"جوسيه" و"جسر قمار" في ريف حمص، ومعبر "العريضة" في ريف طرطوس بشكل رئيسيّ، بالإضافة إلى نقاط حدودية في الريفين المذكورين وريف دمشق أيضاً، وكذلك في البقاع من الجهة اللبنانية، بعد أن ادّعت أوساط العدو استهداف شاحنات محمّلة بالسلاح عبرت الحدود من الجانب السوريّ. وكانت صواريخ العدو قد استهدفت قبل ساعتين من ذلك، منشآت تابعة للجيش العربي السوريّ في مناطق غربيّ حمص، ودائماً تحت الذريعة ذاتها، وهي وقف خطوط إمداد المقاومة.
لعلّ هدف تدمير المقاومة في غزّة ولبنان بشكل نهائيّ، يقع على رأس أهداف جبهة العدوان الممتدّة من واشنطن إلى "تلّ أبيب"، لكن هدف تقطيع أوصال محور المقاومة، وبالتالي إسقاطه بشكل تام أيضاً، هو الهدف الأبعد والأثمن لدى هؤلاء، لذلك تكون سوريا هي الميدان الأبرز الذي سيتجلّى فيه هذا الهدف في المرحلة القريبة المقبلة. من دون أنْ نغفل حقيقة أنّ الاعتداءات على سوريا لم تتوقّف منذ بدء معركة "طوفان الأقصى"، وظلّت وتيرتها تزداد باطّراد على مدى الأشهر الماضية.
وتكمن أبرز عناصر الخطة المعادية للوصول إلى ذاك الهدف، إلى جانب استمرر الاعتداءات الإسرائيلية وتصاعدها المتوقّع في هذه المرحلة، في دعم وتحريك الفصائل الإرهابية التي تسيطر على أجزاء من الأراضي السورية في الشمال والبادية خصوصاً، وتحريك خلايا نائمة ومتوثّبة بانتظار دور مرسوم، في الجنوب السوري. وقد حدثت بالفعل هجمات واعتداءات متزامنة ومُنّسقة بين العدو الإسرائيلي وتلك الفصائل، خلال الأشهر الفائتة، فقبل أيام من إعلان الهدنة على جبهة شمال فلسطين، وبالتزامن مع عدوان إسرائيليّ على ريف حمص، تحرّكت مجموعات من تنظيم "داعش" الإرهابي وهاجمت مواقع للجيش العربي السوري في البادية.
لكنّ اللافت جدّاً هنا، أنّه وبعد ساعات قليلة من خطاب رئيس وزراء العدو الذي سبق الهدنة، والذي هدّد فيه سوريا بمزيد من الاعتداءات، شنّت مجموعات إرهابية كبيرة، تتبع لفصيل "هيئة تحرير الشام" (القاعدة) الذي يتزعّمه أبو محمد الجولاني، مع فصائل أخرى، وبمشاركة كتائب من ما يسمّى "الجيش الوطني" الذي شكّلته تركيا، هجوماً كبيراً عند ساعات فجر يوم الأربعاء الأولى، هو الأعنف منذ العام 2020، وذلك على محاور ريف حلب الغربي، مستهدفة قرى "قبنان الجبل" و"الشيخ عقيل" و"بسرطون" و"بالا" و"السلّوم"، ومنطقة "الفوج 47" والنقاط العسكرية القريبة.
وقد أعلنت "هيئة تحرير الشام" عن "عملية واسعة النطاق" على مواقع الجيش في ريف حلب. اللافت أيضاً، أنّ أوساط تك الفصائل، بدأت بالإعلان عن السيطرة على مواقع لحزب الله في ريف حلب الغربي وسقوط شهداء وأسرى من الحزب، وهذا بكل تأكيد، عارٍ عن الصحة، إذ لا مواقع للمقاومة الإسلامية في لبنان، في تلك الأنحاء، لكنّه تماهٍ واضح مع السردية الإسرائيلية، وإثبات جديد على "وحدة الساحات" المقابلة بين العدو وأدواته في الداخل والمنطقة عموماً.
الواقع أنّ الهجمات العنيفة التي انطلقت منذ ساعات الفجر، قد أدّت إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى بين صفوت قوات الجيش المرابطة هناك، وكذلك بين أهالي القرى المستهدفة، لكنّ الجيش العربي السوري سرعان ما استعاد زمام المبادرة، لتبدأ قاذفاته وطائراته الحربية بقصف جميع خطوط إمداد تلك الفصائل والمجموعات في أرياف حلب وإدلب وامتداد سهل الغاب، واستهداف تجمّعاتها في عدّة مناطق، منها محيط "أورم الصغرى" و"دارة عزّة" و"كفر عمّة" و"تفتناز" ومحيط بلدة "الوساطة" الواقعة شرقيّ الأتارب، ومحيط "الفوج 46"، ومحور قرية "تقاد".
كما بدأت وحدات المدفعية والصواريخ في الجيش السوري باستهداف جميع مواقع الفصائل في تلك المناطق، ولا يزال سلاح الجوّ السوري والروسيّ المشترك، ينفّذ طلعات حربية حتى اللحظة، ويشنّ غارات على مختلف المواقع على جبهات حلب وإدلب وريف حماه، مع تسجيل تحليق للطيران الحربي السوريّ على علوّ منخفض في إدلب، من دون أيّ تدخّل من القوات التركية المحتلة التي توجد في تلك المناطق، ولهذا الأمر دلالاته بالطبع. كذلك لا يزال سلاح الجو السوري يشنّ غارات بأسراب من الطائرات المسيّرة في ريف حلب الغربي، وريف إدلب الشرقيّ.
تُعتبر هذه المعركة واحدة من أعنف وأشدّ المعارك التي جرت في السنوات الأربع الأخيرة على جبهات الشمال السوريّ، وقد بدأتها الفصائل الإرهابية المسلّحة ببيانات وعدت فيها أنصارها بالوصول إلى حلب، لكنّ الواقع الميداني هذه اللحظات، يشير إلى نكبة جديدة لهذه الجماعات التي لبّت نداء رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، وفتحت معركةً إسرائيلية جديدة في الميدان السوريّ. فالأخبار من الميدان تفيد بوقوع المئات من أفراد تلك الفصائل بين قتيل وجريح وأسير، وتدمير العديد من مواقعها ونقاطها العسكرية ومستودعات ذخيرتها وقطع طرق إمدادها، ولا يزال الردّ العسكري السوريّ جارياً بقوة كبيرة ومن دون توقّف.
لهذه المعركة دلالاتها الهامّة في هذا الظرف تحديداً، فهي تأتي أولاً، وبشكل مباشر، بعد الهدنة على الجبهة في جنوبي لبنان، والتي جاءت كإعلانٍ صريح وواضحٍ عن عجز العدو عن تحقيق أي هدف في المعركة مع المقاومة الإسلامية في لبنان. وأيضاً بعد قصف واستهداف جميع المعابر والممرات بين سوريا ولبنان، واستنفاد جميع محاولات منع التواصل العسكري الهام والمفصليّ جدّاً بين دمشق والمقاومة في لبنان (والذي يدرك العدو أهميته أكثر من غيره بكثير. والوقت ليس مناسباً، بالنسبة لسوريا والمقاومة معاً، للحديث عن بعض تفاصيله الآن).
كما تأتي هذه المعركة عقب تهديد نتنياهو بتصعيد المواجهة مع الدولة السورية و"تدفيعها أثمان" رفد المقاومة وإمدادها. وعليه، وبينما تجري نقاشات وأحاديث كثيرة عن جدوى أو ثبات أو استمرار "وحدة الساحات" لدى محور المقاومة، فقد أثبت العدو أنّ لديه "ساحاته الموحّدة" أيضاً، ليس فقط من خلال الدعم العسكري والسياسي والمالي والاقتصادي، وخطوط الإمداد المستمرة على جميع هذه المستويات ومن خلال عشرات الدول في العالم والإقليم، والتي لولاها لما استطاع هذا العدو الصمود في معركة غزّة وحدها لشهر واحد.
ناهيك عن إقدامه على شنّ معركة الشمال مع المقاومة اللبنانية، بل إنّ ساحات العدوان العسكرية الموحّدة من فلسطين إلى الشمال والبادية السوريّتين، أكّدت الآن أنها "ممسوكة" تماماً من إدارة صهيونية واحدة، وأنّ تحريك تلك الأذرع، بالتزامن مع الاعتداءات المتواصلة من العدو نفسه، حاصلٌ بالفعل ومرشّح للتطور والتصعيد في عدّة ميادين.
وبالتالي، يجدر بمحور المقاومة أنْ يكون مستعدّاً للقتال والمواجهة على جبهات مستجدّة ستكون سوريا أوّلها، وربما أعنفها وأخطرها، قبل أنْ يأتي دور اليمن والعراق. وأنّ خطّة العدو للاستفراد بكلّ جبهة على حدة والإمعان في تدميرها ومحاولات تعطيلها، باتت واضحة ولا لبس فيها، وعلى أهل المقاومة أنْ يستدركوا أيّ أمر يحقّق للعدو أهدافه تلك، وأن تتماشى خطط إدارة الصراع لدى المحور، مع مدى خطورة تلك الأهداف والوقائع الجارية بالفعل.
من جهة ثانية، ثمّة دلالات أخرى تشير إليها مجريات المعركة الحاصلة في أرياف الشمال السوري الآن، وفي مقدّمة ذلك، وقوف قوات الاحتلال التركي، حتى اللحظة، موقف المتفرّج والمراقب لتلك الجماعات وهي "تُطحن" على الجبهات، وتُستهدف مواقعها ومخازنها ومقارّها، ولا يبدو ذلك بعيداً عن الخطط التركية – الروسية لتهيئة الأرض في الشمال السوري لواقع جديد.
والمتوقّع هنا، أنْ تؤدّي هذه المعركة إلى تصعيد من الجانب السوري – الروسيّ، وصولاً إلى تحرير طريق "أم 4" الدولي"، وهو هدف جرى الاتفاق عليه بين الجانبين الروسي والتركيّ سابقاً، ولم يُنفّذ حتى اللحظة، لكن يبدو أنّ أوانه قد أزفّ، وربما تكون هذه المعركة الإسرائيلية الخائبة التي أقدمت عليها أدوات الشمال البائسة، مقدّمة لتحرير الطريق ووضعه في الخدمة، وفاتحةً لأحداث تاليةٍ أكبر في الشمال على الأرجح.