"بيغاسوس".. بغداد في فضاء التجسس الإسرائيلي!
لم يكن العراق بعيداً عن دائرة الاستهداف والتجسّس، فيما يتعلق بعدد من شخصياته السياسية والأمنية والعسكرية، ذات التوجُّهات المتعدّدة.
كبيرةٌ وواسعة جداً الضجّةُ التي سبَّبتها فضيحة برنامج بيغاسوس التجسّسي الإسرائيلي، بحيث إن أصداءها امتدّت إلى كلّ الجوانب والاتجاهات، وأربكت كثيراً من الحسابات، وخلطت قَدْراً هائلاً من الأوراق. وأغلب الظن أنّ تداعيات هذه الفضيحة المُدَوّية، ستستمرّ وتتواصل وتتفاقم مستقبلاً.
لم يكن العراق بعيداً عن دائرة الاستهداف والتجسّس، فيما يتعلق بعدد من شخصياته السياسية والأمنية والعسكرية، ذات التوجُّهات المتعدّدة. وهذا ليس بالأمر الغريب والمفاجئ، ارتباطاً بمجموعة عوامل وظروف راهنة، مضافاً إليها خلفيات تاريخية، لا يمكن، في أيّ حال من الأحوال، القفز عليها وتجاهلها، عند القراءة والتحليل لأبعاد حدث آنيّ وخطير ودلالاته، مثل، فضيحة تجسس "بيغاسوس".
قبل هذا وذاك، لا بدَّ من الإشارة إلى جملة حقائق ضمن الإطار العام للحدث، كي نقترب من حقيقة شمول العراق بالاختراق الاستخباريّ التجسُّسي الأخير.
الحقيقة الأولى تتمثَّل بأن برنامج "بيغاسوس" التجسُّسي، والذي أنشأته مجموعة (NSO) القريبة من الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، يعود إلى عام 2013. فهو لم يظهر إلى العلن بين ليلة وضحاها، بل إن ظهوره الأول بدأ منذ عام 2016، كما تشير إلى ذلك مصادر إعلامية متعدِّدة، عندما قام فريق بحثي من معهد Citizen Lab الأمني في كندا، بإجراء عملية تتبُّع ورصد لانتشار البرمجية الخبيثة على مستوى مشهد الاختراقات الإلكترونية وعمليات التجسس. واستغرقت العملية البحثية عامين، وخرجت بنتيجة مفادها أنه في الوقت الذي كان عدد الخوادم التي تعمل على إدارة "بيغاسوس" عن بُعد يبلغ 200 خادم إلكتروني في عام 2016، فإنّ هذا الرقم تضاعف، في عام 2018، ليصل إلى 600 خادم إلكتروني!
الحقيقة الثانية هي أن الشركة الاسرائيلية المُنتِجة (NSO) باعت برنامج التجسس لجهات أخرى، اغلبيتها ـ أو كلها ـ ترتبط بأجهزة مخابراتية. وهذا يعني أن عمليات البيع لم تكن ذات طابع تجاري -ربحي محض، وإنما كان لديها جانب سياسي أمني. ولعلّ استخدامه من جانب حكومات بعض الدول في المنطقة، مثل المغرب والإمارات والسعودية والهند، للتجسّس على شخصيات سياسية وأمنية وإعلامية واقتصادية في دول أخرى - كما ظهر مؤخراً - يُعَدّ دليلاً واضحاً للغاية على ذلك.
أمّا الحقيقة الثالثة، فهي أن سِجِلَّ التجسُّس المخابراتي الإسرائيلي حافلٌ، وتعود جذوره إلى ما قبل احتلال "إسرائيل" فلسطينَ في عام 1948. وتنوَّعت أدواته وتطوَّرت وسائله مع تطوُّر المعارف والعلوم وظهور ثورة المعلومات والاتصالات، واتِّساع نطاقها بوتيرة متسارعة جداً، بحيث أفضت إلى حدوث تبدُّل هائل في منظومات العلاقات الدولية وموازين القوى. حتى إن أقرب حلفاء "إسرائيل" لم يكونوا في منأى عن عمليات التجسس. ولعل قصة الجاسوس الأميركي اليهودي، جوناثان بولارد، الذي عمل لمصلحة جهاز الموساد، وأمضى ثلاثين عاماً في سجون الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يُطلَق سراحه بموجب صفقة سياسية أواخر عام 2020، تؤشّر على عمق شبكات التجسس الإسرائيلية وتشعُّبها.
أمّا الحقيقة الرابعة، فهي أن قيام صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، وصحيفة لوموند الفرنسية، ومجموعات إعلامية أخرى، ومعها وسائل إعلام وجهات أخرى، بكشف فضيحة التجسس في هذا الوقت بالذات، ينطوي على تساؤلات كثيرة وكبيرة، أبرزها: لماذا تعمد جهات غربية حليفة وصديقة لـ"إسرائيل" وللجهات المتورّطة في التجسس، إلى إثارة القضية، وإحراج المتورطين فيها؟ ألا يمكن أن تكون عملية الكشف غطاءً لأهداف أكبر وأخطر، تأتي في إطار مشاريع ومخطَّطات سياسية بعيدة المدى؟
وكما يشير رئيس الوزراء القطري الأسبق، حمد بن جاسم آل ثاني، والذي كان إحدى ضحايا تجسّس "بيغاسوس"، فإنّ "الدول، كما نعلم جميعاً، لا بدّ من أن تراقب وتتابع، مَن وما يَمَسّ أمنها، في مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، ويهدّد سيادة البلاد وخصوصية مواطنيها، بواسطة أجهزة مسؤولة، وبإشراف أناس أمناء مؤتمَنين. وما يؤسَف له بشدة أن هذه الأنظمة التجسّسية أصبحت تُستَخدَم من بعض الدول، وخصوصاً في منطقتنا، لغايات أخرى، تخرج عن كل ما ذكرت، ولا يقوم باستخدامها مراهقون طائشون، بل تُطلِق لها العِنانَ عقولٌ في مواقع المسؤولية، فينتهك أصحابها خصوصيات الناس، ويستبيحون ما حرّم الله، ويزعزعون أمن بلدانهم ومصالحها، تحقيقاً لمكائد خبيثة يتسلّون بها، كما يفعل المراهقون الطائشون".
الحقيقة الخامسة هي أن مجمل ما تمّ الكشف عنه حتى الآن لا يمكن أن يخرج عن سياق المقدِّمات والتحضيرات وتمهيد الأرضيات للولوج بدرجة أكبر في مرحلة التطبيع. وكما يقول الكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان، "ليس من قبيل الصّدفة أن تكون الحكومات العربية التي وقّعت اتفاقات "سلام أبراهام" في الأشهر الأخيرة، هي الأكثر تَورّطا في فضيحة "بيغاسوس" التي تهزّ العالم حالياً، بسبب ما تكشف عنه من أعمال تجسس على أكثر من 50 ألف هاتف لصحافيين ومعارضين سياسيين، بل لملوك ورؤساء وِزارات وشخصيات عربية وعالمية بارزة". ويضيف قائلا "إن التنسيق الأمني، في شقَّيه التقليدي والسيبراني، هو العمود الفِقري لهذه الاتفاقات. ولأن أغلبية الحكومات العربية، وخصوصاً في مِنطقة الخليج، تعيش هاجِساً أمنياً، نتيجة أسبابٍ متعدِّدة خلقت هوةً واسعة بينها وبين شعوبها، بات من السّهل جرُّها إلى مصيدة الحِماية الأمنية الإسرائيلية المزعومة، وإغراؤُها بشراء برامج سيبرانية للتجسّس على الشخصيات المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان، ورجال الصحافة الذين يطالبون بالإصلاح والحريات واجتِثاثِ الفساد من جذوره".
وما يعزّز هذه الرؤية هو دور كلّ من الرياض وأبو ظبي في فضيحة بيغاسوس، وفق ما تناولته تقارير متعدّدة، وإيرادها أرقاماً وحقائقَ في هذا الشأن، واستناداً إلى طبيعة توجُّهات الشخصيات التي طلبت السلطات السياسية العليا في هاتين العاصمتين التجسُّس عليها، مع الأخذ في الاعتبار أن قطار التطبيع الإسرائيلي مع المحيط العربي انطلق بقوة العام الماضي من أبو ظبي والمنامة رسمياً، ومن الرياض بصورة غير رسمية حتى الآن.
لا شكّ في أن فهم الخلفيات والأسباب لواقع العلاقات المرتبكة والمضطربة على مدى عقدين من الزمن - أي منذ سقوط نظام صدام - بين العراق من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، والدورَ السلبيَّ للأخيرتين في دعم الإرهاب وتمويله في العراق، فضلاً عن حقيقة الأجندات الإسرائيلية الموضوعة للعراق، اليوم ومنذ زمن بعيد، يمكن أن تساعد على العثور على أوجه ترابط تُوصِل إلى الدوافع والأهداف لشمول شخصيات سياسية عراقية بعمليات التجسس الأخيرة.
تحدثت أغلبية التقارير عن إدراج رقم هاتف الرئيس العراقي برهم صالح في قائمة الأسماء الخمسين ألفاً المستهدَفة. ولم تُشر إلى أسماء أخرى، بيد أن هناك مصادر استخبارية خاصة، تتحدّث عن استهداف شخصيات عراقية، مثل رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، ونائب رئيس الهيئة السابق الشهيد أبي مهدي المهندس، وقيادات أمنية رفيعة المستوى. وأكثر من ذلك، تؤكد التقارير أن عملية تعقُّب حركة كل من الشهيد أبي مهدي المهندس، وربما قائد فيلق القدس الإيراني الشهيد قاسم سليماني، تمّت من خلال برنامج "بيغاسوس"، لتنتهي إلى اغتيالهما بقصف جوي قرب مطار بغداد في مطلع عام 2020.
لعلّ الحقائق التي أشَرنا إليها آنفاً تنطبق، إلى حدّ كبير، على أبعاد استهداف العراق أمنياً، ودلالاته وأهدافه، إلى جانب الاستهداف، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولاسيما بعد سقوط نظام صدام حسين، وما أفرزته المرحلة اللاحقة من وقائع ومعطيات ومعادلات.
ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حينما يفترض أن برنامج التجسس الإسرائيلي ساعد على تصفية قيادات مهمة في الحشد الشعبي، خلال الحرب ضد تنظيم "داعش" بين عامي 2014 و2017، وحتى بعد ذلك.
وربما هناك مَن يتساءل: ما فائدة أن تتجسّس "تل أبيب"، أو واشنطن، أو الرياض، أو ابو ظبي، على شخصيات لا تقف في موضع الخصومة والعداء المباشِرَين معها، مثل الرئيس العراقي برهم صالح، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويجيب متخصِّصون بقضايا الأمن السيبراني بالقول إن التجسس على مثل هذه الشخصيات يهدف إلى جمع أكبر قَدْر من المعلومات، من خلال توثيق اتصالاتها ومحادثاتها مع الآخرين، الذين يُعَدون هم الأهداف الرئيسية لبرنامج التجسس.
ويستدلّ هؤلاء المتخصّصون بمثال بسيط، يتمثّل بإدراج الرياض رقم هاتف رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، المقرَّب جداً منها، في قائمة الشخصيات المستهدَفة، علماً بأن السلطات السعودية ليس لديها أيّ اختلاف معه، وإنما اختلافها هو مع بعض شركائه السياسيين، الذين لا بدّ من أن يتواصل معهم باستمرار، سواء اختلف أو اتفق معهم. وقد ينطبق ذلك على المشهد العراقي، إلى حد كبير.
لعلّ "إسرائيل"، بقدر ما تبذل جهوداً محمومة من أجل كسر جدار الممانعة العراقية في مواجهة التطبيع، تتحرّك أيضاً في كل الاتجاهات، وتوظّف جميع القُدرات والإمكانات بهدف تفكيك المنظومة العراقية، سياسياً واجتماعياً وأمنياً. وطبيعي أن الرياض وأبو ظبي وعواصم عربية وإقليمية اخرى، تلتقي معها عند ذلك الهدف. وأنفقت المؤسسات السياسية والمخابراتية والإعلامية والدينية والثقافية في هذه العواصم كثيراً من الأموال والجهود والوقت، لبلوغ الهدف المطلوب، مع التأكيد أن أبعاد التفكيك ومساحاته لا تنحصر في حدود الجغرافيا العراقية وأطرها، وإنما تمتدّ إلى ما وراءَها، كجُزء من مشاريع كبرى، كالشرق الأوسط الكبير، وصفقة القرن، والشام الجديدة، والسلام الإبراهيمي.
لم تتكشَّفْ كل أسرار فضيحة برنامج "بيغاسوس" وخفاياها وخباياها. وقد يكون للعراق حصة أكبر فيما سوف يظهر لاحقاً، ما دام هذا البلد في بؤرة كلّ المخططات والمشاريع والأجندات، وما دام يمثّل محطة التقاء الفرقاء، مثلما يُعَدّ نقطة صِدام فيما بينهم.