تحليل مضمون الخطاب التاريخي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين
إزاء تداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والمواقف العدائية والعقابية غير المسبوقة الصادرة عن التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، اكتشف بوتين أوهام الشراكة بين روسيا والدول الغربية. ومن هنا أهمية خطابه التاريخي الأخير الفاصل والحاسم.
-
تحليل مضمون الخطاب التاريخي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين
ألقى الرئيس الروسي يوم الجمعة 30 أيلول/سبتمبر 2022 خطاباً تاريخياً لمناسبة انضمام 4 مقاطعات أوكرانية في شرق أوكرانيا إلى دولة الاتحاد الفيدرالي الروسي. وإذا كان من المعتاد في الخطاب الإعلامي العربي خلع أوصاف من قبيل "التاريخي" و"غير المسبوق" على خطابات الرؤساء والملوك العرب وتصريحاتهم ولقاءاتهم، كنوع من الحفاوة أحياناً أو النفاق في معظم الأحايين، فإن وصف خطاب الرئيس الروسي بأنه "تاريخي" هو الصدق بعينه والتقدير الصحيح بحاله.
يتّخذ هذا الخطاب أهميته من زاويتين للنظر:
الأولى: طبيعة اللحظة التاريخية أو السياق السياسي العالمي الذي ألقى فيه هذا الخطاب.
الثانية: طبيعة ومضمون الخطاب من طرح ورؤية ومسار مستقبلي للأحداث.
صحيح أن الرئيس الروسي بوتين، ومنذ أن ظهر على مسرح القيادة في روسيا والعالم في أواخر عام 1999، ليخلف بوريس يلتسن المحاط بعصابة هي المافيا الدولية والروسية بعينها التي الدولة السوفياتية الكبرى إلى التفكك والانهيار، أظهر قدراً من البراعة والحزم في إدارة شؤون ما بقي من هذه الإمبراطورية السوفياتية، فأجهز على التمرد الشيشاني الذي كاد يعصف بروسيا الاتحادية، وأعاد التماسك إلى أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، وضبط إلى حد كبير العلاقة الشاذة التي كانت قائمة بين جماعات المافيا المتسترة تحت اسم "رجال الأعمال" ومؤسسات السلطة السياسية والتنفيذية والتشريعية، لكنه قدم خطاباً سياسياً جديداً، بقدر ما كان بعيداً عن الخطاب الشيوعي السابق، فإنه كان بعيداً عن فوضى السوق الرأسمالي المتوحش الذي انقض على الدولة منذ صعود مجموعة الرئيس غورباتشوف، ومن بعده يلتسن.
وفي خطابه الدولي، حرص الرجل على أن يعيد بناء العلاقة مع "الشركاء الغربيين"، وفي طليعتهم الولايات المتحدة، في منطقة رمادية، لا هي معادية للغرب في المطلق، ولا هي ذليلة وتابعة، كما كانت في السنوات التي أعقبت انهيار الدولة السوفياتية وتفككها (1985-1999).
وكان خطابه في مؤتمر الأمن الأوروبي المنعقد في مدينة ميونيخ الألمانية عام 2008 علامة بارزة على نوع الشراكة التي يرغبها الرجل مع الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، في إطار صيغة مقبولة ومتوازنة للأمن الجماعي.
لم يقدم الرجل نفسه ودولته منافسين للولايات المتحدة ومناهضين للغرب. على العكس، عرض نفسه ودولته شريكين في نادي الكبار، سواء كانوا سبعة أو ثمانية، حتى من دون أن يدعو - هو أو الغرب - الصين إلى الاشتراك في هذا النادي، رغم أنها كانت باقتصادها تكاد تعادل إنتاج 5 دول من هذه الدول السبع مجتمعة.
إذاً، كان رهان الرئيس بوتين منذ البداية على الاندماج في هذا السوق العالمي وهذه المنظومة العالمية بكل ما فيها من أمراض وظلم لبقية شعوب العالم، ثم جاءت التصرفات الغربية والأميركية الخطرة في المحيط الجيو-سياسي لدولة روسيا، إذ انفجرت "التمردات الملونة" في جورجيا أولاً، ثم في بقية الجوار الروسي، وكان آخرها ما جرى في ربيع عام 2014 في أوكرانيا، وهي كلها تستهدف الإتيان بمجموعات من السياسيين المواليين للغرب والولايات المتحدة، وإتمام الحصار الجيو-استراتيجي لروسيا ونفوذها المقدر أو المتوقع.
كان الرد العسكري الروسي السريع والحاسم ضد جنوح "الشاب ساكشفيللي" واندفاعه في جورجيا عام 2008 إنذاراً للغرب وتنبيهاً لقادته بأن روسيا اليوم لم تعد روسيا غورباتشوف أو بوريس يلتسن، وجاء خطابه في ميونيخ تقديراً وتقديماً لرؤيته للشراكة مع الغرب في مجال الأمن الجماعي الجديد.
ويبدو أن جنوح الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، وغياب قدر من البصيرة الاستراتيجية لقادتها (جورج بوش الابن – باراك أوباما – دونالد ترامب – جو بايدن) ساهما في استمرار هذه السياسة الغربية ذات الطبيعة العدوانية ضد روسيا أولاً، ومن بعدها الصين، فجاء التمرد البرتقالي الدموي في أوكرانيا عام 2014، المدعوم بلا تردد أو خفاء من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وتحالف الناتو، بمنزلة إنذار لروسيا بأن احتمالات الخطر على الكيان الروسي انتقلت من كونها احتمالات بالتهديد إلى خطر وتهديد قائم وحاضر وزاحف من دون أدنى تردد.
كان الرد الروسي السريع والمحدود بضم شبه جزيرة القرم بعد استفتاء سكانها على ذلك، وتوفير قدر من الحماية الحذرة لسكان مقاطعات الشرق التي تعد غالبية سكانها من أصل روسي من تغول المجموعات النازية والعنصرية الحاكمة في كييف وجرائمها.
ولمدة 8 سنوات، ومع وجود اتفاقية "مينسك" بين أطراف الأزمة والحكومة القائمة في كييف، لم يتوقف نزيف الدم وجرائم حكومة أوكرانيا، حتى جاءت لحظة الحقيقة في الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، وبدأ الزحف الروسي على شرق أوكرانيا لخلق أمر واقع جديد.
على أيِّ حال، وإزاء تداعيات هذا العمل العسكري الروسي والمواقف العدائية والعقابية غير المسبوقة من حلف الناتو والتحالف الغربي عموماً بقيادة الولايات المتحدة، اكتشف بوتين أوهام الشراكة بين روسيا والدول الغربية، ومن هنا أهمية هذا الخطاب التاريخي الفاصل والحاسم.
وإذا حاولنا تحليل مضمون هذا الخطاب الاستراتيجي، نجد أننا أمام 4 مستويات و3 اتجاهات.
أولاً: مستويات الخطاب الأربعة
نحن إزاء 4 مستويات متداخلة ومتكاملة هي:
- المستوى الفكري والأيديولوجي.
- المستوى السياسي.
- المستوى الاقتصادي.
- المستوى الإستراتيجي.
على المستوى الفكري والأيديولوجي، قدم الرئيس الروسي للمرة الأولى - تقريباً - نقداً فكرياً وأيديولوجياً للمعسكر الغربي، استخدم فيه لغة لم تكن تأتي أبداً في خطاباته وتوجهاته نحو الغرب، فقد وصف الغرب ككلّ بأنه استعماري السلوك، ونخبته ما زالت تدور في فلك الفكر الاستعماري، وأن هذا الغرب المزدوج المعايير يحاول فرض قيمه المنافية للإيمان بكل أبعاده المسيحية والإسلامية واليهودية وغيرها من القيم الدينية، والمسكونة بالروح الشيطانية، وهو غرب يحاول أن يفرض معاييره السلوكية الشاذة المغايرة لقيمنا، مثل المثلية الجنسية والعنصرية، وأن هذا الغرب الاستعماري قام بتقسيم العالم إلى مراتب يتربع على رأسها، ومن بعده تأتي بقية الشعوب والدول.
وامتلأ خطاب الرئيس بوتين بنقد لاذع لما يسمى الديمقراطية الغربية والليبرالية، التي لم تكن سوى قناع خادع ومزيف لعمليات الهيمنة ونهب ثروات الشعوب، وعدم التزام الغرب نفسه بها وقت الضرورة والمصالح التي يرتضيها.
وهكذا شحن الرئيس الروسي خطابه بمفردات نقدية قاسية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وخرج بالتالي عن ذلك الخطاب المراوغ الذي ميز لغة الخطاب الرسمي الروسي تجاه الغرب طوال الأعوام العشرين السابقة، فلم يعد الغرب شريكاً أو صديقاً، من دون أن يذهب إلى خندق الاشتراكية أو الشيوعية الذي تخندقت فيه روسيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق منذ ثورة 1917 حتى تفككه عام 1991، بل اتجه خطاب بوتين إلى تأجيج النزعة القومية وروسيا العظيمة وروسيا التاريخية كأساس أيديولوجي وفلسفي لخطابه السياسي، وكأيديولوجيا للنظام والحكم تحت قيادته.
على المستوى السياسي، حفل خطاب الرئيس بوتين بالنقد اللاذع للسلوك السياسي لدول التحالف الغربي، وخصوصاً الأنغلوسكسون (بريطانيا والولايات المتحدة)، ووصف بعض الدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا، بأنها دول محتلة من الولايات المتحدة، وأنها تفتقر إلى الإرادة السياسة والقرار السياسي المستقل.
وألمح إلى السلوك الغربي أثناء الحرب العالمية الثانية، وتدمير الطائرات الأميركية والبريطانية مدناً كاملة وتاريخية في أوروبا – ويقصد تحديداً ألمانيا – من دون مقتضى أو ضرورة للعمل العسكري والميداني.
وأشار بوضوح إلى أنَّ الولايات المتحدة لا يهمها إطلاقاً مصالح الشعوب الأوروبية في مقابل مكاسبها من تجارة السلاح. وقدم في المقابل نقداً صريحاً لحكام روسيا والاتحاد السوفياتي السابقين الذين اتخذوا قرار تفكيك الدولة السوفياتية بجهل، من دون معرفة بالتأثير الكارثي لتداعيات هذا العمل، كما شدد على أهمية حق سكان المقاطعات في شرق أوكرانيا وغيرها من المناطق بتقرير مصيرهم، باعتباره حقاً يكفله القانون الدولي وحقوق الإنسان.
على المستوى الاقتصادي، استفاض بوتين في استخدام مصطلحات مثل نهب ثروات الشعوب وفرض الولايات المتحدة للدولار كوسيلة للهيمنة والنهب، وخاطب شعوب العالم الثالث أو النامي مبيناً مخاطر استمرار هذا النظام الاقتصادي الظالم وغير المتوازن، وكرر كثيراً المعاني التي كانت مهجورة في الخطاب الروسي منذ عام 1985 بصعود جماعة غورباتشوف ومن بعده بوريس يلتسن، واستمرّ مهجوراً كذلك في خلال الأعوام العشرين التي تولى فيها بوتين ومدفيديف متبادلين الرئاسة في روسيا حتى شباط/فبراير 2022.
أما على المستوى الاستراتيجي، فقد كشف الرجل عن رؤيته وسياساته القادمة، المرتكزة على تحدّي هذا الغرب، والمشاركة مع القوى العالمية الراغبة في التحرر من هذه الهيمنة الغربية الاستعمارية لبناء نظام اقتصادي وسياسي دولي أكثر عدالة يقوم على احترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، والتخلص من هيمنة الدولار الأميركي والعلاقات الاقتصادية الدولية غير العادلة، ومن ثم العمل على إقامة نظام عادل ومتوازن.
من جانب آخر، حرص الرئيس الروسي على أن يكون خطابه موجهاً في 3 اتجاهات:
الأول: إلى الشعب الروسي في الداخل، والمنتشرين منهم في الخارج، وفي الدول المجاورة.
الثاني: إلى بقية الشعوب الأوروبية، لتحريضهم على سياسييهم الضعفاء والتابعين بذلّ للولايات المتحدة.
الثالث: إلى شعوب العالم النامي والمكتوي بهذه السياسات الاستعمارية الغربية.
الحقيقة أننا، بهذا الخطاب التاريخي، نستطيع القول إن عهداً جديداً في العلاقات الدولية والصراعات الدولية بدأ بالفعل، وقد يستغرق عقدين أو ثلاثة عقود، وسوف تشهد فيه البشرية أزمات متعددة وحصارات من هنا أو هناك ومقاطعات، كما سنشهد فيها بزوع تحالفات جديدة وعالم منقسم، وربما متعدد الأقطاب، قد تتأخّر فيه العدالة للشعوب بعض الوقت، لكن من المؤكّد أنَّ الهيمنة الأميركية والغربية عموماً في طريقها إلى التحلّل والضعف.
وربما يعطي هذا شعوب العالم الثالث فرصة للتمرد والثورة والتخلّص من حكّامها الذين ظلوا لعقود طويلة أداة من أدوات هذه الهيمنة الاستعمارية الغربية، سواء في المنطقة العربية أو القارة الأفريقية أو قارة أميركا اللاتينية.