تركيا... خطابات انتخابية مقلقة!
لا شك في أن الخوف من خسارة الانتخابات في تركيا يجعل الأطراف المتنافسة تستخدم كل أدواتها المشروعة وغير المشروعة. ونقصد هنا بغير المشروعة تلك التي تضر بمستقبل البلاد، من خلال المسّ بنسيجه الاجتماعي.
يتصاعد الخطاب الانتخابي مع اقتراب موعد انتخابات الرابع عشر من أيار/ مايو. كان من المتوقع أن يركز المرشحون والمسؤولون على ما يريد المواطن التركي سماعه، وعلى الأغلب هو كل ما يتعلق بحياته اليومية والمعيشية، وإذ بكلمات تنقل الاستحقاق من محطة انتخابية إلى حرب كلامية، قد تأخذ تركيا إلى ما لا تحمد عقباه، إذا أخذت التصريحات بحرفيتها.
على سبيل المثال، يقول وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إن "15 من تموز/يوليو كان محاولة انقلابية بحكم الأمر الواقع، أما 14 أيار/مايو الجاري فهو محاولة انقلابية سياسية يمكن تحقيقها من خلال الجمع بين كل الاستعدادات لتصفية تركيا". (28/4/2023)
كلام لا يوضع إلا في خانة الاستغراب، إذ إنه صادر عن المسؤول الأعلى في وزارة الداخلية، وهي ركن أساسي في أي استحقاق انتخابي. ولعلّ الحديث المنتظر من وزيرها كان يجب أن يقتصر على كيفية تأمينها، وتمرير اليوم الرابع عشر من أيار/مايو الطويل بالسلاسة المطلوبة، وطمأنة من يعلّي الصوت بتأمين صناديق الاقتراع خارجياً وداخلياً، لا الغوص في خطابات ظرفية. وعليه، أن يصدر هذا الكلام من وزير الداخلية المنتمي إلى حزب "التنمية والعدالة" الحاكم والممسك بالسلطة منذ أكثر من عقدين، فلا شك أنه لا يبشر بالخير أبداً.
في كلام صويلو نفسُ خسارةٍ يفوح، وفيه توصيفٌ استباقي للنتيجة على أنها انقلاب. والأهم أنه يحمل في طياته "أمر اليوم"؛ وهو عدم الاعتراف بالنتيجة، وبالتالي تشكيك في أهلية من سيصل إلى سدة الرئاسة، فلا عجب أن تخرج أصوات مطالبة بإقالته.
الأمر لم يتوقف على صويلو، فنائب رئيس حزب "العدالة والتنمية" بن علي يلدريم الذي لم يحالفه الحظ في انتخابات بلدية إسطنبول في العام 2019 وصف الانتخابات بأنها "للنضال من أجل الاستقلال ضد الغزاة". (26/4/2023)
وهنا أيضاً في الكلام ما هو أكبر من الحدث نفسه. إذ لم يوضح بن علي يلدريم من هم الغزاة، هل هو حزب "الشعب" الجمهوري، أقدم الأحزاب التركية، أو الأحزاب الأخرى المنضوية في طاولة الستة، وهي في أغلبها محافظة وآتية من رحم الحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه؟!
وفي مواصلة للنهج نفسه، وليس بعيداً عما قاله بن علي يلدريم، رأى كبير مستشاري الرئيس التركي محمد أوشوم أن تغيير السلطة في انتخابات عام 2023 سيكون ضربة لاستقلال تركيا الكامل (1/5/2023). والتساؤل الذي يطرح على خلفية كلامه، ما معنى الاستقلال بالنسبة إلى هؤلاء؟ وهل استقلال تركيا هشّ إلى حدّ ربطه بانتخابات وبشخصية بحدّ ذاتها؟ وهل كل معارض هو عميل، وبالتالي وصوله إلى السلطة من شأنه أن يهدد استقلال البلاد؟
وبرغم خطورة كل ما سبق، يبقى الأهم ما قاله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بعد استراحة لبضعة أيام بسبب المرض في أنقرة، "إنه وبدعم من قنديل (في إشارة إلى جبال قنديل، معقل حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابياً) سيصبح رئيس هذا البلد (وهنا إشارة إلى المرشح المعارض كمال كليجدار أوغلو). وتابع الرئيس إردوغان "إن أمتي لن تتنازل عن هذا البلد لمن قد يصبح رئيساً بدعم من قنديل!"(1/5/2023).
خطاب إردوغان وكلماته تؤكد وجود استراتيجية انتخابية عنوانها الحياة أو الموت بالنسبة إلى فريقه السياسي. فالاستحقاقات في العادة لا تستأهل هذا المستوى من التخاطب، خصوصاً إذا عدنا إلى كلام الرئيس التركي في الاستحقاقات السابقة والمتمسكة بالنتيجة التي تفرزها صناديق الاقتراع، وبالتالي احترام إرادة الناس وخياراتها.
في الواقع، كلام الرئيس إردوغان يطرح جملة من التساؤلات، أولها: هل بالفعل يمكن لدعم حزب العمال الكردستاني لأي طرف أن يأتي برئيس للبلاد؟ أوليس من المبالغة الحديث عن قوة هذا الحزب، وهو قابع في الجبال نتيجة العمليات العسكرية التي لا تتوقف ضده منذ سنوات وسنوات؟
وأكثر، إذا كان هناك مرشحون لهم علاقة فعلاً بالإرهاب، وهناك أدلة على ذلك، فكيف سكت المجلس الأعلى للانتخابات على ذلك، ومرّر طلبات ترشيحهم؟
لا شك في أن الخوف من الخسارة يجعل الأطراف المتنافسة تستخدم كل أدواتها المشروعة وغير المشروعة. ونقصد هنا بغير المشروعة تلك التي تضر بمستقبل البلاد، من خلال المسّ بنسيجه الاجتماعي، واللعب على وتر التفرقة لا الوحدة. هذا النسيج الذي تقول التقارير إنه سيحمل إلى الانتخابات نحو 6.5 ملايين ناخب جديد معظمهم من منطقة جنوب شرق الأناضول، لا يُعرف حتى الساعة مزاجهم الانتخابي، وأي خطاب قد يستحوذ على قلوبهم كما عقولهم.