حلّ البرلمان في العراق.. بين إملاءات التيار وخيارات الإطار
أوساط قريبة من مجلس القضاء الأعلى ذهبت إلى "أن هناك منْ يريد زجّ القضاء في الأزمة السياسية" في العراق.
مع استمرار تداعيات الأزمة السياسية الخانقة في العراق، وغياب أيّ ملامح في الأفق لمخرج مناسب من النفق المظلم الذي دخلته أو أدخلت فيه، يتسع نطاق القراءات المتشائمة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في نهاية المطاف.
ولعل بقاء الفرقاء في مواقعهم وعلى مواقفهم يقلص فرص التوصل إلى حلول من شأنها نزع فتيل الأزمة، إلا إذا برزت مستجدات وتطورات خارج إيقاع الأحداث الراهنة، وبعيداً من دائرة المعطيات القائمة.
وبعد أن كان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر قد دعا مطلع شهر آب/أغسطس الجاري إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، فإنه أعطى في وقت لاحق -وتحديداً في العاشر من الشهر الجاري- مهلة 10 أيام لمجلس القضاء الأعلى للقيام بحل البرلمان.
وكتب الصدر في تغريدة: "ربما يقول قائل: إن حل البرلمان يحتاج إلى عقد جلسة برلمان ليحل نفسه. كلا، فإنَّ فيه كتلاً متمسكة بالمحاصصة والاستمرار على الفساد، ولن ترضخ لمطالبة الشعب بحل البرلمان. بل أقول: إن حل البرلمان غير منحصر بذلك. ومن هنا أوجه كلامي إلى الجهات القضائية المختصة، وبالأخص رئيس مجلس القضاء الأعلى، آملاً منهم تصحيح المسار، وخصوصاً بعد انتهاء المهل الدستورية الوجيزة وغيرها للبرلمان باختيار رئيس الجمهورية، وتكليف رئيس وزراء بتشكيل حكومة..".
وأضاف: "نعم، أوجه كلامي للقضاء العراقي الذي ما زلنا نأمل منه الخير على الرغم مما يتعرض له من ضغوط سياسية وأمنية وتسريبات من هنا وهناك، على أن يقوم بحل البرلمان خلال مدة لا تتجاوز نهاية الأسبوع القادم.. وتكليف رئيس الجمهورية مشكوراً بتحديد موعد انتخابات مبكرة مشروطة بعدة شروط سنعلن عنها لاحقاً. وخلال ذلك يستمر الثوار باعتصاماتهم وثورتهم.. وسيكون لهم موقف آخر إذا ما خذل الشعب مرة أخرى".
يبدو أنَّ موقف الصدر هذا جاء رداً غير مباشر على خصمه اللدود زعيم "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي، الذي كان قد أكَّد في وقت سابق أن حل البرلمان لا يتحقق إلا بعد استئناف البرلمان نفسه عقد جلساته.
ولعلَّ من يقرأ بدقة تغريدة زعيم التيار الصدري يجد أنها مثلت خطوة متقدمة في التصعيد والضغط، فبعد اقتحام أنصار التيار المنطقة الخضراء واعتصامهم في مبنى البرلمان، وهو ما تسبَّب بشلله التام، جاءت الخطوة الثانية التي تمثلت بإقحام السلطة القضائية في الأزمة، من خلال الطلب إليها بحل البرلمان، وإحراجها في فترة زمنية محددة، والتلويح بخيارات أخرى في حال لم تستجب لذلك.
ولم يتأخّر رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، الذي تعرض للكثير من الانتقادات الحادة واللاذعة من التيار الصدري، عن القول إنّ حل البرلمان ليس من اختصاص القضاء، في الوقت الذي سربت بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي حديثاً متلفزاً لزيدان قبل عدة أسابيع، يؤكد فيه إمكانية حل البرلمان من خلال طلب رئيس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، مع الحق في الطعن به أمام المحكمة الاتحادية العليا.
أوساط قريبة من مجلس القضاء الأعلى ذهبت إلى "أن هناك منْ يريد زجّ القضاء في الأزمة السياسية الحالية وجعله طرفاً فيها، وأنّ أي قرار يتخذه القضاء سيرضي طرفاً على حساب الطرف الآخر، ما يضع البلاد على حافة أزمة غير مسبوقة، وأن قرار القضاء سيصدر في حال تلقيه طلباً بذلك، من دون العودة إلى المهلة التي حددها الصدر، لكونها غير ملزمة له".
وبينما حدّدت المادة 64 من الدستور العراقي النافذ آليات حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، يرى خبراء ومختصون في القانون الدستوري أنه "يمكن للمحكمة الاتحادية حل البرلمان وفق المواد 47 و59 من القانون المدني المتعلق بإخفاق هذه المؤسسة في أداء دورها الدستوري وتجاوز المدد الدستورية، حتى لو لم تنصّ المادة 64 من الدستور على ذلك، فإنه يمكن العودة إلى المبادئ العامة الواردة في القانون المدني، التي تؤكد أن المؤسسة عندما تعجز عن أداء دورها يتولى القضاء حلها".
ويؤكّد آخرون أنّ المحكمة الاتحادية تستطيع حلّ البرلمان بطرق عدة، منها، على سبيل المثال، أن تقرّر أنه فقد مشروعيته الدستورية بتجاوزه المدد الدستورية. وبهذا، فإنّ من فقد المشروعية الدستورية هو بحكم العدم، ولا يستطيع الاستمرار في عمله.
لم يعترض الإطار التنسيقي بقواه المختلفة على حل البرلمان والتوجه نحو انتخابات مبكرة أخرى، بيد أنه يصرّ على اتباع السياقات والآليات الدستورية وتجنب تثوير الشارع وإحداث الفوضى.
وقد أكد ذلك المعنى وشدد عليه عبر مجمل البيانات والتصريحات التي صدرت عن قياداته بعد انتهاء التظاهرات الأخيرة التي دعا إليها ونظمها الإطار أمام المنطقة الخضراء في 12 آب/أغسطس الجاري، وتبعها الإعلان عن البدء باعتصام مفتوح، في إشارة واضحة إلى أنه وجمهوره لن يذعن لإملاءات الصدر واشتراطاته، ولا خيار لدى الأخير سوى إخلاء البرلمان من أتباعه وعودة الأمور إلى نصابها الصحيح، تمهيداً للشروع بحل البرلمان من خلال البرلمان نفسه، بعد تشكيل حكومة انتقالية تكون مهمّتها الأساسية التهيئة لإجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن، والعمل على استعادة ثقة الشارع وتنفيذ مطالبه المشروعة.
من الواضح أن الإطار التنسيقي كان بإمكانه، سواء في التظاهرات الأولى قبل أسبوعين أو التظاهرات الأخيرة، دفع جمهوره إلى داخل المنطقة الخضراء، بيد أنه لم يفعل ذلك، إدراكاً منه أن الاتجاه نحو التصعيد والانزلاق إلى أقل احتكاك مع جمهور التيار الصدري يمكن أن يفضي إلى تفجر الموقف وخروج الأمور عن السيطرة.
في مقابل ذلك، فإنَّ قدرة الإطار على حشد أعداد كبيرة من جمهور قواه السياسية والمتعاطفين معه والمؤيدين له، يفترض أن تجعل التيار الصدري يتوقف ويتردد كثيراً قبل أن يقدم على أي خطوات تصعيدية أبعد من الاعتصام في مبنى البرلمان، لأن ذلك لن يجعل الإطار يقف مكتوف الأيدي، بل لا بد من أن تكون له خياراته وخطواته المضادة.
ومع أنَّ القوى الكردية والسنية لم تتحدَّث بصراحة، ولم تتبنَّ موقفاً واضحاً حيال تفاعلات الأحداث ضمن فضاء المكون الشيعي، لأنَّها لا ترغب في الوقوف مع طرف على حساب طرف آخر، حتى لا تخسر سياسياً، ناهيك بأنها تخشى أن يؤدي أي موقف واضح لها إلى إقحامها في لجّة الصراع، لكن واقع الحال والمؤشرات هنا وهناك تؤكد أنها، ووفقاً لحسابات المصالح، وحرصاً على هدوء جمهورها واستقراره، لا تؤيد حل البرلمان والانتخابات البرلمانية المبكرة. وفي حال وجدت نفسها أمام ذلك الخيار، فإنها تفضل التقيد والالتزام بالخطوات الدستورية، باعتبارها الأقل استحقاقاً وخطراً وإرباكاً.
كما أن القوى المدنية التي كانت وراء تظاهرات تشرين عام 2019 أو المؤيدة والداعمة لها، دعت خلال تظاهرات نظمتها في ساحة الفردوس وسط العاصمة بغداد، تزامنت مع تظاهرات الإطار التنسيقي، إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة في غضون عام.
وهناك إشارة لافتة وردت في النقطة الأخيرة من البيان الختامي لقوى الإطار بعد التظاهرات، وهي التأكيد على الالتزام التام والطاعة الكاملة لكلّ ما يصدر عن المرجعية الدينية العليا، والمقصود بها مرجعية آية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف الأشرف، إذ تترقب وتتوقع العديد من الأوساط السياسية والنخب المجتمعية أن تبادر المرجعية إلى إصدار موقف معين حين تقدّر أن الأمور بلغت مستوى خطراً لا يصحّ السكوت معه، كما حصل عند تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في بدايات عام 2006 من قبل الجماعات الإرهابية التكفيرية، وكما حصل بعد اجتياح تنظيم "داعش" مدينة الموصل ومدناً ومناطق عراقية أخرى في صيف عام 2014.
ربما يكون موقف المرجعية الدينية قارب نجاة لمن يرى أنه تورط في بعض الخطوات والإجراءات، ويعتقد أن من الصعب عليه التراجع عنها، من دون أن يعني أنها -أي المرجعية- تقف مع طرف وتعارض الآخر، لأنها في واقع الأمر شخّصت منذ بضعة أعوام، من خلال منبر صلاة الجمعة، مكامن الضعف والخلل والانحراف في مجمل العملية السياسية، وحثّت كلّ القوى المعنية على تصحيح المسارات الخاطئة، بيد أنها لم تجد آذاناً صاغية في حينه.
ورغم أن الأمور وصلت إلى الحافات الحرجة والخطرة، ورغم أنَّ التصلب والتشدد ما زالا سيد الموقف، فإنَّ مسارات أيّ حل للأزمة لا يمكنها إلا أن تمر عبر بوابة التفاهم والحوار، المباشر أو غير المباشر، سواء ما يتعلق بحل البرلمان والذهاب إلى الانتخابات مرة أخرى أو مصير الحكومة الحالية ورئيسها مصطفى الكاظمي.
بعبارة أخرى، القطيعة والاحتراب الكلامي الإعلامي والتنافس والتصارع على الميدان والجمهور، لا يعني إلا المزيد من التعقيد والتأزيم والاندفاع ودفع البلاد والعباد إلى الهاوية.