طوفان الأقصى.. تجدد ثقافة المقاومة
أدت التجارب المقاومة السابقة والحالية دوراً مهماً في تأصيل التجربة في غزة، وخصوصاً تجربة المقاومة في لبنان التي رسَّخت نموذجها في الوجدان العام، وخصوصاً بعد حرب تموز 2006، التي برز فيها التماسك المجتمعي الحاضن للمقاومة.
تماسك المجتمع الغزاوي ورفضه المطلق كل الضغوط الهائلة لإجباره على اللجوء إلى سيناء في مصر رغم تدمير 70% من منازله وتجاوز عدد الشهداء أكثر من 21 ألفاً، ثلثاهم من الأطفال والنساء، فإن هذا المجتمع بقي حتى الآن يتحدى، ويرفض التخلي عن غزة ومقاومتها، بما يرسم صورة مختلفة لثقافة المقاومة المجتمعية، ويدفع إلى العمل على إعادة تجديد الحياة بهذه الثقافة وتعميمها على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي.
تكمن أهمية دور المجتمع الغزاوي في صعوبة هذه المرحلة القاسية من التاريخ الإنساني بعدما سيطرت العولمة بقيمها ومفاهيمها على البنى الاجتماعية العالمية، وسيطرت الأنماط الاستهلاكية المرتبطة بإشباع الغرائز التي لا تتوقف عن الاستهلاك وتبحث عن الجمال الزائف، ما جعل التيار الاستهلاكي هو المسيطر على التحولات الاجتماعية، وجعل قيمة الإنسان مرتبطة بمدى قدرته على الاستهلاك، بما يحوله إلى مجرد ضرورة لاستمرار الإنتاج وتزايد الثروة وتراكمها بين عدد محدود جداً من البشر.
لم يكن هذا التماسك المقاوم الأسطوري ليُنجز لولا توفر مجموعة من العوامل الأساسية التي تفاعلت وتكاملت مع بعضها البعض، للوصول إلى حالة مجتمعية موحدة خلف هدف أساس وبعيد المدى، عنوانه "فلسطين من البحر إلى النهر"، وخلفه مجموعة من الأهداف المتفرعة كدلالات رمزية للصراع الحقيقي، بما في ذلك هدم سور سجن غزة الكبير والحفاظ على مقدسات المسجد الأقصى.
لا شك في أن طبيعة الثقافة الإسلامية المتجذرة في غزة لها دور كبير، وربما تكون صاحبة الدور الأكبر، فهي تعود بجذورها إلى الثقافة التاريخية الحقيقية، وهي بعيدة عن الثقافة الإسلامية "المتأمركة"، وتختلط بالثقافة الفلسطينية الخاصة، بما يعطيها بعداً وطنياً بعيداً عن المشاريع التي تُثار حولها العديد من الأسئلة، بالرغم من المحاولات التي تمت في المراحل السابقة لبناء جماعات ذات بعد تكفيري تم احتواؤها.
ترافقت هذه الثقافة الإسلامية مع قيادات ميدانية للمقاومة ذات بعد عملي وميداني هو الأقرب إلى الناس وآمالهم، فشكلت شخصياتها المتعاقبة على قيادة حركات المقاومة بعداً كارزمياً مستقطباً للمجتمع الغزواي، فهي منه والمجتمع منها بحالة تفاعلية قلَّ مثيلها وتتقاطع إلى حد كبير مع بقية مجتمعات المقاومة في لبنان واليمن بشكل أساسي، ما ساهم أكثر في بناء الثقة المجتمعية الضرورية لتحقيق الأهداف المرسومة.
وأدى غياب الانقسام الاجتماعي دوراً مهماً ببروز التماسك المجتمعي المقاوم، نتيجة توافق قوى المقاومة المتنوعة على الأهداف العامة والاشتراك بالرؤية السياسية الواضحة. وقد يكون لغياب السلطة الفلسطينية وإخراجها من غزة الدور المهم في منع تشكل انقسام اجتماعي على أرضية سياسية، ما ساعد على التفاف المجتمع الغزاوي على الهدف الأساس.
ومن العوامل التي ساهمت في ذلك هو غياب الرفاهية عن المجتمع بأغلبيته الكبيرة، رغم أن الرفاهية حق من حقوق الإنسان، وينبغي تحصيلها لكل المواطنين، ولكنها في هذا الواقع، بغياب الضوابط القيمية الناظمة لها وتحولات الهوية الاجتماعية، تؤدي دوراً في تمييع المجتمعات في ظل نظام العولمة الاستهلاكي المسيطر على المسار البشري العام. هذا الأمر شكل بعداً مساعداً على إيجاد بيئة عمل جامعة للغزيِّين يغلب عليها التآزر والتكاتف والتلاحم.
أدت التجارب المقاومة السابقة والحالية دوراً مهماً في تأصيل التجربة في غزة، وخصوصاً تجربة المقاومة في لبنان التي رسَّخت نموذجها في الوجدان العام، وخصوصاً بعد حرب تموز 2006، التي برز فيها التماسك المجتمعي الحاضن للمقاومة وغير القابل للاختراق، مع وجود جهاز أمني عالي الخبرات، فكان لتبادل الخبرات بين الطرفين دور مهم في الوصول إلى هذا المستوى الاجتماعي، مثلما كان في العملين العسكري والأمني.
على أرضيّة هذه العوامل، تشكلت منظومة اجتماعية قيمية عصية على الاختراق باستثناء أفراد محدودين لم يستطيعوا مقاومة الضغوط الحياتية، فكانوا صيداً سهلاً للموساد الإسرائيلي، مثل أي تجربة ناجحة، لكن الحالة العامة لم تخرج عن سياق تلاحم حركات المقاومة مع مجتمعاتها.
أذهل التفاف الغزيين على مقاومتهم العالم في ظاهرة غير مسبوقة لمجتمع هو الأكثر كثافة سكانية في العالم، على أرض لا تتجاوز 365 كم2، ومحاصرة من الجهات الأربع، رغم استمرار حرب الإبادة عليهم واجتماع قوى النظام الغربي، بما وضعهم كطرف مباشر في مواجهة النظام العالمي، ومعهم بقية القوى المقاومة في إيران ولبنان واليمن والعراق وسوريا.
هذا النموذج الغزِّي يدفع إلى التفكير في إعادة النظر في جملة المفاهيم الاجتماعية، ليس على مستوى غزة أو فلسطين، بل على المستوى الإقليمي والدولي، وفقاً للخصوصيات الثقافية والوطنية لكل مجتمع، فالجميع تحت مقصلة تهديد النظام الغربي الذي لم يتوقف عن عمليات مسخ المجتمعات وتدميرها من الداخل، ولن يتورع عن استخدام التدمير المباشر إذا ما تهددت مصالحه، فقصصه منذ 5 قرون لم تخرج عن هذا السياق، والأمر يتطلب اجتماع المتضررين من استمرار هذا النظام، وهذا صراع طويل لا يمكن إنجازه إلا بإحياء ثقافة المقاومة بأشكالها المتنوعة، ابتداء من غزة التي أثبتت أن لا مستحيل في ذلك.