عن سماح إدريس مجدداً.. نفتقدك هذه اللحظات
لماذا يا صديقي نفقد كبارنا الآن، ونحن أحوج ما نكون إليهم. وقضايانا، وفي مقدمتها فلسطين، في حاجة إليهم؟
-
لا أُخفي أنني أكتب وأنا مرتبك، بل عاجز عن ترتيب أفكاري، ففي رأسي تدوّي عبارة ذلك الصديق البيروتي.
أعطى سماح إدريس كثيراً في عمره القصير نسبياً، وترك رحيله صدمة وحسرة في قلوب كل من عرفوه، ورافقوه، واتفقوا معه، أو خالفوه أحياناً، كثيراً أو قليلاً، فهو اتَّسَم بالصدق، والنزاهة، والأمانة، والوضوح، والثبات.
قبل تلقّي نبأ رحيله، كنت اتصلت بأحد الأصدقاء في بيروت لأطمئن على وضعه، فجاءني صوت الصديق حزيناً: المرض تفشّى في كل بدنه، يا صديقي!
عرفت عندئذ ما هو ذلك المرض، فداهمتني نوبة حزن وإحباط، لكنني منيّت النفس بأنه "سينفد" من هذا المرض اللعين الشرس!
لكن المثقف والكاتب والناشر المقاوم والميداني رحل، فلقد خذله جسده في معركته مع ذلك المرض اللئيم، على الرغم من أن سماحاً ظلّ يقاوم حتى وهو يتلقى العلاج، وهذا يتجلّى في افتتاحية "الآداب" الإلكترونية الوداعية – الوصية، والعهد والوعد.
لا أُخفي أنني أكتب وأنا مرتبك، بل عاجز عن ترتيب أفكاري، ففي رأسي تدوّي عبارة ذلك الصديق البيروتي: لماذا يا صديقي نفقد كبارنا الآن، ونحن أحوج ما نكون إليهم. وقضايانا، وفي مقدمتها فلسطين، في حاجة إليهم؟!
فُجِع الفلسطينيون، مثقفين، ومواطنين مقاومين، برحيل سماح إدريس، كواحد من أبرز كتّابهم، ومثقفيهم، ومقاوميهم الكبار، وأبّنوه بحزن وحسرة وشعور فاجع بالفقدان، داخل فلسطين، وفي الشتات القريب والشتات البعيد.
كنت على تواصل في ندوة عبر الزُّوم مع الأهل في مخيم الدهيشة، جار مدينة بيت لحم، مساء الـ29 من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، فافتُتحت الندوة بالوقوف دقيقة وتلاوة الفاتحة على روح الكاتب العربي الكبير المقاوم سميح إدريس، مع آخر شهيد سقط في منطقة بيت لحم، وضجّت القاعة بالتصفيق.. وارتجلت أنا كلاماً أردته لائقاً بسماح، وبأسرة سماح، بوالد سماح ووالدته، وبشقيقتي سماح، وبأسرة آل إدريس...
أنا واثق بأن بعض شوارع فلسطين سيحمل اسم سماح إدريس، فشعب فلسطين وفيّ ولن ينسى رفاق الطريق. ولعلّي أتذكر هنا، في هذا المقام، أن واحداً من أوائل الفدائيين الشهداء الفلسطينيين بعد هزيمة حزيران/يونيو 67 في معارك الأغوار، فاجأنا بأنه يحمل اسم "سهيل إدريس"، وأذكر أن هذا الأمر دفع الدكتور سهيل، رحمه الله، إلى الاستفسار عن هذا الفدائي، ومعرفة كل شيء عنه، وعن ثقافته. وكنت يومها برفقة صديقي الشاعر أحمد دحبور، عندما نقلنا المعلومة إلى الدكتور سهيل.
وُلِدَ سماح لأبوين عروبيين تقدميين ديمقراطيين، حملا باستمرار راية فلسطين، وبشّرا بحتمية تحريرها بالمقاومة، ولم ييأسا عند وقوع هزيمة حزيران/يونيو، بل جعلا مجلة "الآداب" منبراً لأدب المقاومة، وثقافة المقاومة، وشجعا المبدعين العرب على الكتابة الملتزمة ثقافةَ المقاومة رداً على الهزيمة المرّة في حزيران/يونيو 67.
سماح إدريس وُلِدَ لأسرة حملت مشروعاً ثقافياً قومياً منذ أسس المعلم سهيل إدريس مجلة "الآداب" عام 1953. ومع رفيقة عمره السيدة عايدة مطرجي إدريس واصلا مشوارهما المُشرّف، والذي أغنى المشهد الثقافي العربي، وساهم في تحديثه، بالترافق مع التزام هموم الأمة من محيطها إلى خليجها؛ من ثورة الجزائر إلى ثورة عدن؛ من إدانة سياسة الأحلاف إلى فضح العدوان الثلاثي على مصر؛ من تأميم قناة السويس إلى بناء السد العالي؛ من وحدة مصر وسوريا إلى إدانة الانفصال عام 1961 وتجريمه...
في أسرة بنت عالياً "دار الآداب" للنشر لتعزز دور ثقافة مجلة "الآداب"، وُلد سماح إدريس، وانطلق في فضاء حر، بتربية ديمقراطية حقّة بنت شخصيته.. وأطلقتها لتشق طريقها في نهل العلم والمعرفة والثقافة التي تمضي في آفاق لا حدود تنغلق في وجهها، أو تحدّ قدراتها.
رحل المعلم سهيل إدريس، فتقدَّم سماح وأخذ دوره مواصلا رسالة "الآداب". وحين أغلقت أبواب الرقابة الحدود في وجه "الآداب"، واستشرت محاولات الترويض، انتقل سماح بـ"الآداب" إلى زمن التكنولوجيا، فأصدر "الآداب" إلكترونياً، واجتذب اقلاما مبدعة شابة – ولم يُدِر الظهر لمن رافقوا "الآداب" في زمن الأب المعلم، وأنا منهم - فكتب إلي وإلى آخرين، طالباً أن نشارك في قصصنا ومقالاتنا، وبهذا كسر الحدود التي أُغلقت، وملأ فضاء الوطن العربي على الرغم من الحدود المفتعلة، والرقابة الضيّقة الأفق. وهكذا وصلت "الآداب" الإلكترونية إلى أقصى الأرض في حلّة أنيقة حديثة، وبأقلام تنمّ عن مواهب، وبتجدد يمضي بـ"الآداب" إلى آفاق فسيحة.
عندما دُعيت إلى تقديم ندوة في "المنتدى العربي" في عمّان، بعنوان "هل يمكن تجديد الناصرية؟"، يوم الـ28 من أيلول/سبتمبر 2021، في ذكرى رحيل القائد جمال عبد الناصر، وضعت أمامي كتاب أخي وصديقي ورفيقي سماح، "المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية"، وكنت قرأت الكتاب وأنا في تونس بعد أن أهدانيه سماح، وكتب كلمة ذات معنى عميق استعدته من جديد: إلى الأخ والصديق الروائي والقصّاص الفلسطيني العربي.. كيف نكون ناصريين حقاً؟ وديمقراطيين حقّاً أيضاً؟ مع حبي واحترامي. وتوقيعه، بتاريخ 7.5.93.
كان السؤال: كيف نكون ناصريين حقّاً، وديمقراطيين حقاً، حضر في تلك المحاضرة، وحضر سماح صاحب السؤال، والكتاب الغني بحثاً وإبداعاً، والصادر عن منشورات "الآداب" في عام 1992.. وهذا يعني أن سماحاً كان في حدود الثلاثين من عمره آنذاك!
عملياً، ناقش سماح بعمق أزمة الناصرية في العلاقة بالمثقفين، من اختلفوا، ومن نافقوا، ومن خلال أعمالهم الروائية، وأيضاً وضع محددات لدور المثقف العربي، وما يحميه من السقوط في شراك السلطة، أي سلطة، في الماضي والحاضر و... المستقبل.
هذا الكتاب حضر معي في تلك الندوة التي تحدثت فيها عن أهمية تجديد الناصرية، لا بتقديسها والولاء لقائدها الراحل جمال عبد الناصر، لكن بنقدها، والوقوف أمام سلبياتها، وعدم المجاملة والتغطية على أمراضها وأسباب هزيمة حزيران/يونيو 67.
سماح المفكر المقاوم، الروائي الذي انتقل برواياته وقصصه إلى "عوالم" الشباب والفتيان، وذهب إليهم في المخيمات والأحياء الشعبية، مخاطباً العقول، موقظاً الوعي، فاتحاً البصائر على ما ينتظرهم، مُمتعاً ككاتب، مُدهشاً كحكّاء بارع.
سماح الغني الحضور مُترجماً، وناسج الصداقات عالمياً، وهو يخوض معركة "المقاطعة" مع شرفاء مقاومين، عربياً وعالمياً، مُساهماً ببسالة في فضح جوهر الكيان الصهيوني.
حمل سماح بين جنبيه حكمة الكبار- لِنَقُلْ: من الشيخ سهيل إدريس، والوالدة عايدة - والشبّان الذين انتمى إليهم عمراً وعقلاً، فكتب أعمالاً روائية رائعة تتقدمها "خلف الأبواب المقفلة"، والتي بعد أن قرأتها وأخبرته بقراءتي لها، سألني: هل أعجبتك؟
أجبته: يا سماح.. أنت تكتب عن شبّان لا نعرف عنهم سوى القليل، لأنك منهم. صحيح أنك تكتب لهم، لكنك تكتب عنهم، وعن هواجسهم، ومشاغلهم. لذا، فأنت تعرّفنا بهم، وتساهم في تمكيننا من الاقتراب منهم، فضلاً عن أنك روائي بحق...
سماح كان مَرِحاً، جذّاباً، مؤثراً، بعيداً عن الحقد، محاوراً عنيداً، يعمل طوال الوقت، لا في المكاتب، لكن مع الناس، مع الفتيان، وفي التجمعات، والأفعال المقاومة، لأنه عرف دوره وحدده والتزمه: مقاوماً في الميدان، وليس منظّراً يرسل كلماته عبر البريد الإلكتروني، وفي صفحات الصحف والمجلات، لكن عبر الانخراط ميدانياً.. في معركة الثقافة الجادة المنتمية، وفي مواجهة التطبيع، وشحذ الهمم في نشر ثقافة المقاطعة والمقاومة وفي تعميقها.
كتب سماح افتتاحية غاضبة عن "حثالات" الخراب في لبنان، وثبّت خّط "الآداب"، المجلّة، ودار النشر، كأنما كان يترك وصية وعهداً.
في افتتاحية "الآداب"، بتاريخ 29ـ7ـ2021، يفضح من يفسدون الحياة في لبنان، ويعيّشون بيروت وأخواتها في العتمة، والحاجة إلى البنزين والمازوت، المُستجدين للحماية، ومن يرهنون كرامات الوطن ومصيره، ويبيعونه بأثمان بخسة.. وينهبون ثرواته، ويصرخ بهم علّهم يتعلمون فيرتدعون، وهو عارف بأنهم لن يتغيّروا كـ"حثالات".
ولأنه يعرفهم جيداً، ويحتقرهم جداً، يكتب: مع حثالة سارقة قاتلة وحقيرة كهذه، قد لا تبدو للكلمة التغييرية المستقلة سطوة. حتى إحراج هذه الحثالة قد لا يحصل.. ببساطة لأن لا أخلاق ولا قيم لها كي تشعر بأي إحراج!
فكيف إذا كانت تلك الكلمة تواجه اكتساحاً متنامياً لإعلام مقايضة الكهرباء والماء والمكيّف والمازوت والبنزين... ببيع كل المبادئ الأخلاقية والقومية والوطنية والتقدمية؟
لكن، هل من باع ذلك كله حصل على الرفاه الموعود؟ اسألوا مصر السادات ما بعد "كامب ديفيد"!
وفي زمن "الحثالات"، المطبّعين واللصوص، وباعة الدم والضمير، ومغرقي الفضاء والورق بإعلام التخدير والتزوير وتغييب الوعي، فسماح المؤمن بقيم حملها بثبات، يكتب وهو يواجه المرض الذي فتك بجسده، بكل يقين، وبكبرياء، معاهداً.. وواعداً، باسمه، وبمن سيواصل رسالة "الآداب" من بعده:
ومع ذلك، فنحن لا نملك مهنة غير الكتابة والنشر المستقلَّيْن، وسنواصل هذه المهنة، مهما صعبت الظروف، ومهما تعثرنا، أو تأخرنا، أو كبونا.
وسنكون إلى جانب كل من يعمل، بكّد وتفانٍ، وحب، على الخلاص من سارقي أحلام شعبنا في الحياة الكريمة الحُرّة.
هذه وصية سماح، وهذه مدرسة "الآداب" التي أنجبته، وتربّى ونشأ على قيمها، وهذا هو المسار الذي ستواصله "الآداب"...
يثق سماح بمن بقوا بعده، بمن صانوا "الآداب" المجلة، و"الآداب" دار النشر، بشقيقته الناشرة المعروفة، عربياً وعالمياً، رنا إدريس، ومعها شقيقته رائدة، وبحضور الأم عايدة التي تبارك آل إدريس الذين أنجبوا جيلاً ثالثاً يكبر برعاية "روح" الأسرة، وقيمها، وثقافتها، وتراثها...
لروحك السلام، أيها المقاوم المثقف والمفكّر الميداني، سماح إدريس.
سيبقى اسمك مرفوعاً في الميادين، ومع رايات فلسطين، وفي أناشيد المقاومين ووعودهم في كل بلاد العرب، وملهما لكل المثقفين الصادقين والشرفاء والمستقلين حقاً.