في ظل التعددية القطبية المتشكلة.. الـthink tank الأميركي يترنح
يمكن توصيف المسار الحالي لإدارة جو بايدن على أنها عودة إلى النهج الذي ساد قبل دونالد ترامب.
تتطلب محاولة استيعاب الكيفية التي تتخذ من خلالها مؤسسات صنع القرار الأميركي قراراتها جهداً كبيراً. نادراً ما تتحرك السياسات الأميركية وفق السيناريوهات المتوقعة لدى المحللين، فالقدرات اللوجستية والإمكانيات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية التي يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تستثمرها في مشروعها الخارجي، لا يمكن أن تُقارن بمثيلاتها في الدول الأخرى.
إضافة إلى ذلك، يُفترض الإشارة إلى ضرورة أن لا نتجاهل العدد الهائل من مراكز الأبحاث الفكرية الأميركية القادرة على أن تقدم للساسة الأميركيين جملة من الخيارات المختلفة مع إمكانية تقدير نتائجها المتوقعة.
وإذا أمكن الحديث عن اختلاف في مستوى اعتماد صنّاع القرار على هذه المراكز، فإن الثابت أنها تؤدي دائماً دوراً محورياً في الحياة السياسية الأميركية، فانعدام الخبرة على مستوى السياسات الأميركية الفيدرالية لدى معظم المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية يدفع هؤلاء إلى التقرب من مراكز الأبحاث هذه، إذ إن المحافظة على موقع الولايات الأميركية الأحادي ومحاولة التحكم في العلاقات الدولية وفق المصلحة العليا الأميركية تجعلان العلاقة مع هذه المراكز ومع ألمع المحللين فيها حاجة حيوية قد تدفع في كثير من الأحيان إلى تكليفهم بوظائف حيوية ومهمة، كحالة سوزان رايس وجون بولتون وجايمس ماتيس وغيرهم.
المنهجية الأكاديمية التي تطغى في هذه المراكز تسوق لفكرة أن الهدف الرئيسي من نشاطها وعملها لا يرتبط بغايات وأهداف خاصة، إنما يعبر عن رؤية مفترضة لكيفية ضمان مصالح الولايات المتحدة الأميركية العليا.
وإذا كان المسار المذكور آنفاً من العلاقة المترابطة بين الرؤساء الأميركيين ومراكز الـthink tank أمكن لمسه منذ ولاية جيمي كارتر الرئاسية، فإن الرئيس السابق جورج بوش الابن قدم النموذج المثالي للعلاقات العميقة بين الرئيس ومراكز الأبحاث. وبعد ساعات من لقاء جمعه في نيسان/أبريل 1998 مع عدد من الجامعيين في معهد hoover الجامعي في كاليفورنيا، تعاقد مع أكثر من 10 مختصين من المعهد نفسه، منهم كوندوليزا رايس وبول وولفويتز، لمساعدته في إدارة حملته الانتخابية.
وإذا أمكن لمس اختلاف في سياسات بيل كلينتون وباراك أوباما، فإن الثابت أنهما لم يقطعا علاقات البيت الأبيض بمراكز الأبحاث، إنما تبنيا مفهوماً جديداً لكيفية الحفاظ على موقع الولايات المتحدة الأميركية، بحيث اعتمدا على مراكز مختلفة عن تلك التي تسوق لفكر المحافظين الجدد.
وبناء عليه، يمكن القول إن الرؤساء الأميركيين، الجمهوريين والديمقراطيين، سلّموا بعدم إمكانية بناء سياسات استراتيجية فاعلة من دون الاعتماد على مراكز الأبحاث. وفي هذا الإطار، يفترض الإشارة إلى مدى تقبل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن فكرة إمكانياته المتواضعة وجرأته للاعتراف بحدود معرفته وضرورة الاستعانة بأصحاب الخبرة والكفاءة.
وإذا كانت هذه الجرأة قد انسحبت أيضاً على شخصية باراك أوباما الذي حافظ طيلة فترة ولايته على فضوله الفكري وحاجته إلى تقبل فكرة تبادل الأفكار، كسبيل لتطوير السياسات والاستراتيجيات، فإن الرئيس السابق دونالد ترامب قدم نموذجاً مختلفاً عن ذلك المتعارف، إذ رفض الوقوف عند حدود جهله، وأنه بحاجة إلى القليل من التعلم، وأكد، في إطار حربه على ما يسمى "الدولة الإسلامية"، أنه يملك خبرة أكثر من الجنرالات العسكريين الأميركيين. وعلى الرغم من ذلك، لم ينجح في التفلت من هذه المراكز، إذ ضمت إدارته عدداً من العاملين فيها، مثل مايك بومبيو وأليكس وونغ وغيرهما.
بالطبع، يمكن توصيف المسار الحالي لإدارة جو بايدن على أنها عودة إلى النهج الذي ساد قبل دونالد ترامب؛ فالإدارة الحالية تجعل نموذج إدارة باراك أوباما دليلاً عملياً تنطلق منه في عملية صنع القرار على مستوى سياساتها الخارجية. وبناء عليه، فإن الاعتماد على مراكز الأبحاث الفكرية كان من الأسباب المباشرة التي دفعت الإدارة الحالية إلى تبني اتجاهات معينة فيما خص النووي الإيراني، وصولاً إلى أزمتي أوكرانيا وتايوان.
وفي وقت يبدو طبيعياً أن لا ندعي افتقاد مراكز الأبحاث الفكرية الكفاءات القادرة على تقديم الدراسات والأبحاث ذات الأسلوب العلمي والمنهج البحثي الذي يوحي بحياديتها، إضافة إلى أن من البديهي الاعتراف بأنها الوحيدة الفاعلة في مجال تقليص المسافة بين المعلومة وصانع القرار من خلال الأبحاث التي تكون عادة مواكبة للأحداث، فإن الإشكالية في افتقادها الجاذبية والتأثير اللذين كانا سائدين في عهد جورج بوش الابن، وبشكل أقل في عهد باراك أوباما، لا تتصل بآليات عملها وقدراتها، إنما ترتبط أكثر بطبيعة النظام الدولي المتجه نحو تعددية قطبية تلغي الأحادية الأميركية الجاذبة.
وخلال الفترة التي تربعت خلالها الولايات المتحدة الأميركية على عرش النظام القطبي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انجذب العالم إلى النموذج الأميركي كمثال يفترض الاحتذاء به. وبالنسبة إلى هذا الانجذاب، فإن قوة الولايات المتحدة الأميركية العسكرية وقدراتها الاقتصادية القادرة على التحكم في الاقتصاد العالمي لم تكن سبباً رئيسياً لذلك، إلا إذا ارتبطت بالقدرات التسويقية الهائلة لنموذج الأفكار الأميركي.
لقد فقدت الولايات المتحدة الأميركية هذه القدرة التسويقية، نتيجة عدد من الإخفاقات التي ارتبطت ببعض الملفات ذات الطبيعة الحيوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، كالنووي الإيراني والأزمة السورية وتراجع إمكانات حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى تخلي بعض القوى العالمية عن الحذر من مواجهة الغضب الأميركي، كالصين وروسيا، وانتقال هذه القوى من الدفاع عن فكرة السيادة المحددة بمجالها الحيوي المباشر إلى سياسة التوسع والارتقاء بالتعاون الدولي إلى مستوى إلغاء آثار الأحادية الأميركية، واعتبارها كأنها لم تكن.
وبناء عليه، فإن الخلل الذي أصاب السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية لم يكن بسبب مستوى التحليل الذي تقدمه مراكز الأبحاث الفكرية، إذ إن ما تخرجه من خامات علمية يؤكد عدم تراجع جودتها، إنما يرتبط بالصورة النمطية للولايات المتحدة الأميركية في عيون قياداتها.
تلك الصورة المتشكلة في العقل الباطني الأميركي تعكس توقف الزمن الأميركي في لحظة الأحادية القادرة على إدارة شؤون العالم وفق رغباتها، ومن دون أي عائق أو اعتراض. ونظراً إلى أن النظام المتشكل حالياً أو الذي يمكن أن نقول إنه في طور التشكل لا يراعي تلك الأحادية، إنما يعمل حازماً للتخلص من آثارها، فإن الدراسات التي تقدمها هذه المراكز لم تعد تتسم بالفعالية والعملانية.
إن خيار أعضاء إدارة بايدن المنحدرين من المراكز البحثية المؤثرة، كمركز بن بايدن للدبلوماسية العامة في جامعة بنسلفانيا أو مركز بروكينغز، افترض أن العقوبات الدولية قد تكون رادعاً أمام تنفيذ روسيا تهديدها ضد أوكرانيا.
وإذا عدنا إلى خيار الدبلوماسية المستندة إلى سياسة الضغط القصوى على الجمهورية الإسلامية إذا رفضت الانصياع إلى المسار الأميركي، فإن هذا الخيار كان سيظهر فاعلاً في زمن الأحادية القادرة على ردع أي مخالفة لسياساتها.
وإذا قاربنا رد الفعل الصيني على زيارة بيلوسي لتايوان، فإن النتيجة المؤكدة أن التقدير الذي استندت إليه رئيسة مجلس النواب الأميركية لا يقدم قراءة وافية لرد الفعل الصيني المتوقع إلا ضمن تنظيم أحادي قطبي.
لذلك، يمكن القول إن هامش الخطأ العالي الذي رافق تقديرات مراكز الأبحاث الفكرية وجعلها تترنح في السنوات القليلة الماضية، لا يعبر عن مستوى متدنٍّ للمحللين والباحثين العاملين في هذه المراكز، بقدر ما يعكس فقدان الولايات المتحدة تأثيرها العالمي وعدم قدرتها على المحافظة على مكتسبات حقبة الأحادية التي تربعت على عرشها.