في لبنان.. نعاني الانفصام!

إنه انفصام من نوع مغاير، يعيشه اللبنانيون، هذه الأيام، في التعايش بين واقعهم المفروض عليهم قسراً، من جرّاء أكبر أزمة عرفها بلدهم، مالياً واقتصادياً، في تاريخه منذ أكثر من 100 عام، وبين ما اعتادوا عيشه.

  • في لبنان.. نعاني الانفصام!
    في لبنان.. نعاني الانفصام!

لا هو انفصام شخصي، ولا انفصام وجداني، ولا انفصام ذهني، في تعريفه العلمي، كاضطراب عقلي يؤثر في طريقة تفكير الشخص وشعوره وسلوكه. إنه انفصام من نوع مغاير، يعيشه اللبنانيون هذه الأيام، في التعايش بين واقعهم المفروض عليهم قسراً، من جرّاء أكبر أزمة عرفها بلدهم، مالياً واقتصادياً، في تاريخه منذ أكثر من 100 عام، وبين ما اعتادوا عيشه، وما زالوا يصرّون على أن يستمروا فيه، رافضين محاولات إخضاعهم، اقتصادياً واجتماعياً وسلوكياً، وبالتأكيد سياسياً، من جرّاء حالة شديدة الصعوبة يرزحون تحت حمل أثقالها.

لقد تسنّت لي متابعة أداء بعض القياديين في إدارة المالية العامة للدولة اللبنانية، في خلال فترة إضراب موظفي القطاع العام والعاملين فيه، خلال شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو المنصرمين، احتجاجاً على تدني رواتبهم، التي ـ في ظل الأزمة الخانقة - لم تعد تكفي لسدّ تكلفة انتقالهم إلى عملهم وقدومهم منه، ومطالبتهم بتصحيحها كحق بديهي لهم.

فمن جهة، هم مولجون بمهمة تأمين واردات للدولة المفلسة. ومن جهة ثانية، هم جزء من زملائهم موظفي القطاع العام، الذين يفتقرون إلى الحد الأدنى، للعيش باكتفاء الضرورة.

بداية، في خلال أيام الإضراب، هم من المؤيدين، لكنهم ليسوا بمضربين. لقد حضروا، طوال هذه الفترة، إلى وزارتهم الأُم (وزارة المالية)، بحيث كانوا إلى جانب وزيرهم مشكّلين خلية عمل لا تهدأ حتى بعد الدوام الرسمي، يدرسون ويناقشون، بالأرقام وبأدق التفاصيل، تحصيلاً وإنفاقاً، وتغطيةً، وعجزاً مقدَّراً، وموازنة ومشاريع قوانين، وخلافها... وإيفاء زملاء القطاع العام.

يرافقون الوزير إلى جلسات لجان المال والموازنة النيابية في البرلمان اللبناني، يبحثون عن تشريع لاعتمادات وإيرادات (قد تؤخَذ أغلبيتها من جيوب الناس، كما اعتادوا النظر إليها)، باعتبار أن لا موارد من ثروات طبيعية، ولا تحصيل ماليّ عادي من رسوم وضرائب، بسبب شلل الأوضاع العامة وضغوط دولية قاربت حدود الحصار، انعكست سلباً، استيراداً وتصديراً وحركةَ إنتاج، وزاد عليها انفجار مرفأ العاصمة، بيروت، الذي يُعَدّ واحداً من أهم الموانئ على المتوسط، ناهيك بما أصاب عصب الحياة العامة والحياة الخاصة من جراء جائحة كورونا.

في مهمّاتهم هذه، قد ينظر إليهم عامة الناس، كوحوش كاسرة تسعى لالتهام كل شيء من أخضر ويابس، لمصلحة المالية العامة للدولة. وهم أنفسهم، أولئك الموظفون الذين يكدّون لسد حاجة استهلاكهم، كما زملاؤهم المضربون، ويعانون مثلهم إجحاف الرواتب العاجزة عن إشباع عوائلهم وتأمين حاضر ومستقبل لائقَين بهم.

استوقفت من بين هؤلاء 3 قياديين فقط، أنقل ما دار بيننا من حديث، كل على حدة، فكانت الخلاصة موحَّدة، إلى حدّ كبير، ومفادها: "نوافقك في الرأي: إننا نعيش حالة انفصام كبرى".

القيادي الأعلى رتبة: "على الرغم من أن العائلة والوطن هما في مرتبة القدسية نفسها، وكذلك حقوق الزملاء، فإن شعوري، عملياً ووطنياً، يتغلب على ما عداه عندما أكون منغمساً في العمل، لأساهم، ولو في الجزء اليسير، في تحقيق المصلحة العامة".

القيادي الثاني، الباحث عن واردات للدولة، تراه كالنمر المتوثّب للبحث عن طريدة، أعتقد أنه لا يتوقف لحظة، ليلاً كانت أو نهاراً، عن التفكير في أي مورد. في فترة الإضراب، لم يسجّل عليه زملاؤه المضربون أي خروج عن تضامنهم. وفي العمل يحدّثك عن حوافز على تحصيل الضرائب والرسوم من المكلَّفين. يتحدث عن خشبة خلاص الدولار الجمركي لإعادة وقوف الإدارة العامة على رجليها، وتأمين خدمات الناس الأساسية، ويُسهب في تفنيد السلع التي يطالها، والتي جميعها من الكماليات التي يستهلكها الأغنياء، ولا تترك أثراً سلبياً في السلة الغذائية، وتحمي الإنتاج الوطني. ويكمن تأثيره، في جملة ما يكمن، في السيارات الفارهة والإكسسوارات الثمينة جداً، وسواها.

وحين ينتهي من عمله مع ساعات المساء، تعود به واقعية الحياة والعائلة ليجد نفسه مضطراً إلى المبيت في بيروت، وليس في الجبل. وأيام الصيف تلتهب الحرارة بسبب الغلاء المتوحش لمادة البنزين وتكلفة النقل. نسأله عن شعوره في حالتي العمل وخارجه، فيمازح سامعيه بالسؤال: هل أنا أبله؟ ليعاجلوه بأنه "الانفصام؛ الحالة الملازمة للبنانيين، الذين ترى أغلبيتهم يتحدثون إلى أنفسهم، ويجالسون أنفسهم كمن فقدَ صوابه. إنها حالتنا الطبيعية".

أمّا القيادي الثالث فتراه ناقماً على طبقة السياسيين "أوائل المنفصمين من دون منازع". فهم، في رأيه، فيما يخص مواقفهم بشأن الموازنة وإجراءات التصحيح المالي والتعافي الاقتصادي، يُجيدون اللغتين، أو الخطاب المزدوج، أحدهما داخل الأروقة، والآخر خارجها للاستهلاك الشعبي... ليخلص إلى القول: "بأمثال هؤلاء، نرجو الله أن يُعين لبنان واللبنانيين".