لماذا التهديد الإسرائيلي باستئناف الاغتيالات؟
التكبيل الفلسطيني لسياسة الاغتيالات في جبهتي غزة ولبنان مؤخراً لا يعني أنَّ الاحتلال قد لا يذهب إلى هذا الخيار. فهل يعود الاحتلال إلى سياسة الاغتيال من جديد؟
على الرغم من تقدير المنظومة الأمنية في "دولة" الاحتلال أنَّ تنفيذ عمليات اغتيال ضد المستوى القيادي للمقاومة الفلسطينية لم يكن مفيداً، من حيث القدرة على وقف تطور الأعمال الفدائية ضد الكيان، طوال العقود الماضية، فإن المستوى السياسي يُواصل طرح استئناف هذه العمليات حلاً مرحلياً في مواجهة الضغط الداخلي ضدّه، وفي محاولة أخرى لصنع معادلات جديدة ترفع الثمن على مستوى قيادة المقاومة، على أمل أن تدفعها هذه التهديدات، أو تنفيذها، إلى إعادة حساباتها وتوجهاتها المتمثلة بتصعيد العمل المقاوم في الضفة الغربية.
ويطلق الاحتلال على سياسة الاغتيالات مصطلح "جبي الثمن" ممّن يموّلون مجموعات المقاومة العسكرية ويشغّلونها في الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً الموجودين خارجها، وأوقفها كسياسة اغتيال بعد الحرب على غزة عام 2014، لكنّه عاد واستأنفها عام 2019، في عملية اغتيال القيادي في "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، بهاء أبو العطا، كما كرّرها في العامين الماضيين خلال عدوانَيْن ضد قطاع غزة، ونفّذها وفق حسابات عسكرية وأمنية دقيقة من دون أن تؤدّي إلى تفجر مواجهة كبيرة.
وبرزت مؤخراً تهديدات إسرائيلية صريحة وعلنية باغتيال قيادات فلسطينية، أبرزها الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، وقائد الحركة في الضفة الغربية المحتلة، لكنَّ هذه التهديدات تزامنت مع موقف مُعقّد، ميدانياً وسياسياً، حيال تنفيذ هذه المهمة، في ظل وجود العاروري في لبنان، وتجديد الأمين العام لـ"حزب الله"، السيد حسن نصر الله، تعهّده عَدَمَ السماح بتنفيذ أي عملية اغتيال لقادة المقاومة في الأراضي اللبنانية، الأمر الذي جعل ميزان الربح والخسارة معقداً أمام المستويين السياسي والعسكري في "دولة" الاحتلال.
وكخيار ثانٍ، فكَّر الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ عملية اغتيال داخل قطاع غزة ضد قيادات سياسية وعسكرية من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ومن الأسرى المحررين المُبعدين إلى قطاع غزة، لكنَّ هذا الخيار أيضاً معقد أمام جيش الاحتلال وحكومة نتنياهو، إذ لا تضمن حكومة الاحتلال طبيعة الرد الذي ستنفذه حركة "حماس"، التي تعهّدت ردّاً كبيراً وغير مسبوق في حال تنفيذ مثل هذا الاعتداء الغادر، بحيث يُقدِّر الاحتلال أنَّ الحركة ستردّ من قطاع غزة ولبنان والضفة الغربية، وهو ما سيعني تجسيداً لـ"وحدة الساحات الفلسطينية"، وهو المبدأ الذي تسعى دولة الاحتلال لمحاربته ومنع حدوثه.
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية تكبيل الخيارات الإسرائيلية على مدى الأعوام الماضية، عبر استراتيجية مراكمة القوة، والمعارك العسكرية الفارقة، كـ"سيف القدس"، وترابط الجبهات الداخلية والخارجية. وبات هناك تفكير إسرائيلي مطوّل في الثمن الذي سيتكبّده في حال إقدامه على إشعال مواجهة عسكرية جديدة.
لكنَّ هذا التكبيل الفلسطيني لسياسة الاغتيالات في جبهتي غزة ولبنان مؤخراً لا يعني أنَّ الاحتلال قد لا يذهب إلى هذا الخيار، إذ إنَّ الغطرسة والكِبَر الإسرائيليَّين، والمصالح الشخصية والذاتية للقيادتين السياسية والعسكرية، تُعًدّ عوامل محفّزة على اتخاذ مثل هذا القراء الخاطئ.
ما يعزّز التوجّه الإسرائيلي، خلال الفترة الحالية، إلى الذهاب نحو تنفيذ عملية اغتيال في ساحات غزة ولبنان، هو التحريض على وجود مجموعات قيادية في حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" (السنوار، العاروري، الضيف، النخالة والعجوري) يحملون توجهاً إلى تصعيد العمل المقاوم، وخصوصاً في الضفة الغربية. لهذا، إنّهم يمثلون تهديداً حقيقياً لأمن الاحتلال، عبر جهودهم من أجل إحداث نقلة نوعية في طريقة عمل المقاومة الفلسطينية واستراتيجيته عبر تفعيل كل الجبهات الفلسطينية، وخصوصاً الضفة الغربية، وترتيب تحالفات المقاومة الفلسطينية الخارجية كمكوّن أساسيٍّ في محور المقاومة.
من ناحية ثانية، قد يكون الاحتلال، في ظل أزمته المتصاعدة بسبب المقاومة المتنامية في الضفة المحتلة، وعدم قدرته على الرد خارجها، متجهاً إلى خيار الاغتيالات لصنع معادلات جديدة مع المقاومة الفلسطينية، مفادها أنَّ الرد على الفعل المقاوم في الضفة لن يقتصر على ساحة الضفة، بل سيتعدى ذلك إلى استهداف الجهات التي تموّل العمل المقاوم وتنظّمه وتحرّضه في الضفة.
تعتقد المستويات الأمنية والعسكرية في "دولة" الاحتلال أنّها استطاعت، في مرحلة من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بفعل سياسة الاغتيالات ضد المستوى القيادي في الفصائل الفلسطينية، الحدَّ من العمليات الفدائية، وإنهاء العمليات التفجيرية داخل المدن المحتلة، وصنعت معادلة الاغتيالات في مقابل العمليات الفدائية الكبرى. وفي ظل الأزمة الاستراتيجية في الضفة المحتلة، يعود المستويان الأمني والسياسي إلى طرح مثل هذا الخيار مَخْرَجاً، لعلّه يوقف قيادة المقاومة الفلسطينية عن التفكير في خيار تفعيل المقاومة، وتنفيذ العمليات في الضفة.
أمّا نتنياهو، كرأس للمستوى السياسي والحكومة اليمينية المتطرفة، فيهدف من العودة إلى سياسة الاغتيالات، ولو بصورة صورية، إلى استعادة صورته التي تضررت أمام الجمهور الإسرائيلي بأنَّه "سيّد الأمن"، والقادر على تنفيذ مشروع اليمين بالسيطرة على الضفة. ويركز نتنياهو، في هذه المرة، دعايته أمام جمهور المستوطنين في الضفة الغربية، الذين يصوت أكثر من 80% منهم لحزب "الليكود" وأحزاب الائتلاف الحكومي الموالي له.
في المجمل، يدرك نتنياهو وجيشه أنَّ الذهاب إلى خيار الاغتيالات لن يؤدي إلى وقف تصاعد العمل المقاوم في الضفة الغربية، بل على العكس قد تؤدي عملية اغتيال إلى تفجّر معركة كبيرة، كمعركة "سيف القدس"، والتي ستؤدي، بطبيعة الحال، إلى دفعة معنوية كبيرة لدى الفلسطينيين في الضفة والقدس المحتلتين والداخل المحتل عام 1948، كما حدث في صيف عام 2021، بالإضافة إلى إدراك الاحتلال أنَّ الفاعلين والراغبين في تصعيد العمل العسكري في الضفة الغربية ليسوا طرفاً واحداً، بل إنَّ هذا الأمر بات خياراً استراتيجياً لدى محور المقاومة، بصورة كاملة، في ظل نجاعته وجدواه في استنزاف جيش الاحتلال.