مسارات حركة "فتح" بعد 58 عاماً على النشأة (2/2)
لقد تركت معركة "سيف القدس" أثراً عميقاً داخل حركة فتح، وأحدثت جدلاً واسعاً في صفوف كوادرها، وبات الحنين لماضيها النضالي والكفاحي يتردد في الأوساط الفتحاوية.
-
مسارات حركة "فتح" بعد 58 عاماً على النشأة (2/2)
انعكست رؤية الرئيس محمود عباس المتمسكة بمسار التسوية بعيداً عن خيار الكفاح المسلح على توجهات حركة فتح منذ توليه رئاسة الحركة بعد وفاة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وشهدت الضفة الغربية المحتلة تراجعاً ملحوظاً للمقاومة بشقيها العسكري والشعبي، منذ تولي السيد عباس رئاسة السلطة وحركة فتح، الأمر الذي اعتبرته الأوساط الصهيونية والإقليمية والدولية نجاحاً في قدرة أبو مازن على فرض سياسته الأمنية من دون معارضة مؤثرة من أقطاب حركة فتح، على نحو أكسبه شرعية خارجية ومكانة تنظيمية لا يزاحمه عليها أغلب القيادات الفتحاوية، باستثناء القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان، على خلفية معارضته لما وصفه باستبداد وتفرد الرئيس.
يرجع نجاح السيد عباس في سيطرته على حركة فتح وتحكمه في مسارها السياسي، منذ عام 2005، لعاملين رئيسيين. الأول، رغبة فتح في الحفاظ على السلطة ومنع انهيارها في أعقاب عملية السور الواقي ووفاة عرفات، ومنح رئيسها أبو مازن فرصة للتعامل مع "إسرائيل" والمجتمع الدولي وفق قناعاته ورؤيته التي تبناها، وكان على خلاف مع عرفات حولها، وهي عدم اللجوء إلى الخيار العسكري في مواجهة العدو وعدم التلويح به، باعتباره ضاراً بالقضية الفلسطينية، واستخدام الأداة الدبلوماسية فقط كوسيلة وحيدة لنيل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، والعامل الآخر هو الشرعيتان القانونية والتنظيمية التي اكتسبها الرئيس أبو مازن بعد انتخابه لرئاسة السلطة عام 2005، وقبلها اختياره لرئاسة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، على نحو مكن قيادة الحركة من استخدام موقع الرئاسة في سعيها لإضعاف خصمها السياسي، حركة حماس، ولا سيما بعد فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية عام 2006، وتوليها حكم قطاع غزة منفردة عام 2007.
شهدت الضفة الغربية المحتلة منذ نحو العامين، تطورات مختلفة، أدت إلى تراجع هيمنة الرئيس أبو مازن والتيار الموالي له، والذي نصطلح على تسميته مجازاً "التيار العقلاني" على حركة فتح، كما يرجح بأن مؤشر منحنى التحكم والسيطرة، على مسارات الحركة المستقبلية، سيستمر في التراجع تدريجياً، والذي يمكن استنتاجه من خلال عدد من النقاط، من أبرزها:
- دخول الرئيس أبو مازن مرحلة الشيخوخة، ببلوغه سن الـ 87، وهو يعاني من أمراض مختلفة، ولا يستطيع ممارسة مهامه إلا من خلال تناوله لعقاقير وأدوية متنوعة، الأمر الذي أدى إلى تراجع قدرته على متابعة شؤون التنظيم والسلطة، وتركه هامشاً أكبر لأقطاب داخل حركة فتح، باتوا يعرفون بفريق الرئاسة.
- زيادة حدة التنافس الداخلي الفتحاوي، على خلافة أبي مازن، في ظل عدم وجود آليات ناظمة لعملية انتقال القيادة للرئاسات الثلاث (فتح، المنظمة، والسلطة)، وبدأت الخلافات الداخلية تطفو على السطح، وكان آخرها، ما نشرته مصادر مجهولة لتسريبات عن محاضر لجنة التحقيق في وفاة ياسر عرفات، والتي يرأسها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح توفيق الطيراوي، إضافة إلى تسريب صوتي لحسين الشيخ عضو مركزية فتح وأحد المرشحين لخلافة أبو مازن، وتهجم الشيخ بألفاظ نابية على عدد من قادة فتح البارزين والمتنافسين على خلافة الرئيس.
- أظهرت أغلب استطلاعات الرأي العام، تراجعاً ملحوظاً في تأييد الرئيس أبو مازن، وطالبته أغلبية تزيد على 70% بتقديم استقالته، بينما تمتع القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي، الأسير داخل سجون الاحتلال بشعبية كبيرة، وحظي بتأييد أغلبية واضحة من المستطلعين، فيما لم تحظ القيادات الفتحاوية المنافسة على قيادة فتح، إلا بنسب متدنية، وفي ذلك إشارة لتوجهات القاعدة الفتحاويين التي تسعى للقطع مع "التيار العقلاني" بزعامة عباس، لصالح التيار الثوري الذي يرونه في شخص البرغوثي.
- اهتزت ثقة القاعدة الفتحاوية بقيادتها وقدرتها على التغلب على تحديات الحركة الداخلية في أعقاب قرار الرئيس عباس إلغاء إجراء الانتخابات التشريعية في أيار/مايو 2021، والذي أرجعه مختلف المراقبين إلى أسباب داخلية فتحاوية-الفشل في ثني مروان البرغوثي عن تشكيل قائمة منفصلة، والإعلان عن قائمة تتتبع محمد دحلان -إضافة إلى الخشية من فوز حركة حماس.
- سلوك السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح، ولا سيما المس بالحريات، ومقتل المعارض السياسي نزار بنات، قضم من مكانة قيادة السلطة والحركة.
- شعور القواعد الفتحاوية وكوادرها الوسطى بنوع من المهانة الوطنية، بسبب استمرار تنسيق السلطة الأمني مع الاحتلال، من دون أي ثمن سياسي، ما حوّلها في نظرهم إلى عبء بدلاً من أن تكون رافعة لنيل الحقوق الوطنية، وأفقد حركة فتح جزءاً مهماً من رصيدها الشعبي، عكسته خسارتها الكبيرة لانتخابات مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت قبل نحو 7 أشهر، وفازت فيها حركة حماس، التي تعززت شعبيتها بعد معركة "سيف القدس"، وتجسدت المقاومة في غزة كمدافع عن المقدسات.
لقد تركت معركة "سيف القدس" أثراً عميقاً داخل حركة فتح، وأحدثت جدلاً واسعاً في صفوف كوادرها، وبات الحنين إلى ماضيها النضالي والكفاحي يتردد في الأوساط الفتحاوية، ولا سيما بعد فشل الرهان على الخط السياسي الذي قاده الرئيس أبو مازن و"تياره العقلاني"، رغم تنفيذ أجندتهم بحذافيرها والتي قادت إلى تجفيف بيئة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، وتغول صهيوني تهويدي واستيطاني غير مسبوق على الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.
تأرجحت المسارات التي خطتها قيادة حركة فتح بعد توقيع اتفاقية "أوسلو" عام 1993، بين نهجين، سعياً لتحقيق هدف واحد، وهو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، والاعتراف بـ "شرعية إسرائيل" على باقي فلسطين المحتلة، أما النهجان فهما، الأول قاده الرئيس الراحل ياسر عرفات عن طريق المزج بين العمل السياسي والمقاومة الشعبية والعسكرية، وامتد هذا النهج حتى وفاة عرفات عام 2004، بينما قاد النهج الآخر السيد محمود عباس والذي اعتمد خيار العمل السياسي فقط.
وبينما نجح عباس في الحصول على دعم غالبية فتحاوية لنهجه منذ توليه رئاسة الحركة والسلطة بعد وفاة عرفات، إلا أنه بدأت تظهر مؤشرات منذ نحو عامين على تململ فتحاوي داخلي، ليس تجاه النهج والمسار وحسب، بل تجاه الهدف والغاية (حل الدولتين)، والذي أجهضته سياسات العدو الاستيطانية والتهويدية في الضفة والقدس المحتلتين.
رغم أن "التيار العقلاني" الفتحاوي لا يزال يسيطر على مؤسسات فتح والسلطة، وسيسعى بكل ما يمتلك من أدوات ونفوذ وعلاقات للحفاظ على المسارات والسياسات القائمة، إلا أن الأجيال الصاعدة في حركة فتح وقطاعاً مهماً من الكوادر والقيادات الوسطى، يسعون إلى رسم مسارات نضالية على قواعد وأسس جديدة، أبرزها، استعادة نهج الكفاح المسلح لمواجهة العدو والدفاع عن الأرض والمقدسات، والتعاون والتنسيق والشراكة مع القوى الوطنية وحركات المقاومة كافة على نحو أفرز تشكيلات عسكرية في نابلس وجنين، ضمت مقاتلين من فتح وحماس والجهاد وقوى أخرى.
كما انخرط في صفوفها عناصر فتحاوية من الأجهزة الأمنية، نفذوا عمليات فدائية ناجحة، واستشهد عدد منهم، وبرغم أن حركة فتح لم تتبنَ عناصرها الفدائيين رسمياً، إلا أنها باتت تفتخر بهم في كل مناسباتها، وعبر إعلامها، الأمر الذي سيحفز مزيداً من عناصرها للانخراط في مسار العمل المقاوم. إلا أن هذا المسار والتيار الثوري الذي يقوده، سيواجَه بأدوات الترغيب والاحتواء وحتى الترهيب، من "التيار العقلاني" المتحكم في المال والسلطة والنفوذ، وسيواجَه أيضاً بعمليات تصفية وإرهاب صهيوني.
على الأرجح، فإن مسارات حركة فتح وتوجهاتها لن تشهد تغيراً دراماتيكياً، في ظل بقاء السيد أبو مازن على رأس الحركة والسلطة، وستنجح محاولات "التيار العقلاني" النافذ في حركة فتح في احتواء عدد من العناصر الثورية داخلها، إلا أن التيار الثوري العريض داخل الحركة الذي بدأ يتشكل ويصنع لنفسه رموزاً وقادة وشعارات، سيتعزز تدريجياً ولا سيما في ظل حكم اليمين الصهيوني الفاشي، وسيعبّر عن نفسه بقوة في مرحلة ما بعد رئيس السلطة أبو مازن، وسيخط مسارات ثورية وكفاحية تتناغم مع قوى المقاومة في قطاع غزة والمنطقة، في مواجهة حكومة العدو الفاشية، ليس بهدف إسقاطها بل بهدف إنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية.
اقرأ أيضاً: مسارات حركة "فتح" بعد 58 عاماً على النشأة (1/ 2)