"مسيرة الأعلام" والاقتحامات المستمرة للقدس.. نظرة عامة
وقائع "مسيرة الأعلام" الإسرائيلية أثبتت أن سقف الفصائل الفلسطينية للتدخل عسكرياً يتمثل بتهديد المستوطنين للمسجد الحرام والقُبَّة المشرفة من خلال اقتحامهما سعياً إلى هدمهما.
-
"مسيرة الأعلام" والاقتحامات المستمرة للقدس.. نظرة عامة
كان يوم الأحد 29 أيار/مايو 2022 يوماً عصيباً على الفلسطينيين وعموم شعوب العالم العربي والإسلامي، فقد مثلت مشاهد قطعان المستوطنين وهم يقتحمون باحات المسجد الأقصى ويجوبون مدينة القدس بالآلاف أعلى درجات الاستفزاز للضمائر الحية، ولكن ما زاد إحساس الجماهير بالحرقة والعجز في ذلك اليوم العصيب كان غياب رد فعل فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، التي توعدت بردودٍ قويةٍ في تصريحات عالية السقوف.
ولعلَّ الخلل الجسيم في تلك التصريحات كان يكمن في أنها لم تحدد بشكلٍ واضحٍ خطوط المقاومة الفلسطينية الحمر، بل انتهجت سياسة الغموض المقصود، كما ورد في مقالٍ عشية "مسيرة الأعلام" في 28 أيار/مايو، ما أدى إلى الخلط بين "مسيرة الأعلام" واقتحام المسجد الحرام والقُبَّة المشرَّفة في أذهان غالبية المتابعين، على عكس ما فعلته المقاومة الإسلامية اللبنانية "حزب الله"، إذ كان السيد حسن نصر الله قد حدَّد - بشكلٍ لا يقبل اللبس - في خطابه في ذكرى التحرير أن خط "حزب الله" الأحمر يتمثل باقتحام المسجد الحرام والقُبَّة المشرفة، وتعرضهما للتهديد من المستوطنين.
لكنَّ وقائع يوم الأحد 29 أيار/مايو 2022 أثبتت أن سقف الفصائل الفلسطينية للتدخل عسكرياً يتمثل بتهديد المستوطنين للمسجد الحرام والقُبَّة المشرفة من خلال اقتحامهما سعياً إلى هدمهما، وهذا خطٌ أحمرٌ موضوعيٌ ضمن موازين القوى الراهنة، فلعلّه كان من الأجدى بالمقاومة الفلسطينية تحديد هذا الخط الأحمر للتدخل عسكرياً بشكلٍ واضحٍ في خطابها، بدلاً من اتباع سياسة الغموض المقصود، وذلك كي لا يتولّد شعور بالإحباط غير المبرَّر لدى الجماهير في فلسطين المحتلة وخارجها.
إذا ما قرأنا ما حصل يوم 29 أيار/مايو 2022 بعقلٍ باردٍ، نجد أنّ الإسرائيلي بنى خطواته على تقدير موقف مفاده أنَّ اقتحام المسجد الحرام وقبَّة الصخرة سيفضي إلى جولة حربٍ جديدةٍ. لذلك، وجدنا أن "مسيرة الأعلام" التزمت بسقف حكومة الاحتلال، ومارست المسيرة أعلى درجات الاستفزاز، لكن من دون تعريض المسجد الحرام وقبَّة الصخرة للتهديد.
وبناءً عليه، يكون الوضع القائم بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان المؤقت قد أشار إلى عدم استعجال كِلَا الطرفين الذهاب إلى جولة تصعيدٍ عسكريٍ جديدةٍ. وفي هذا إنجازٌ محقّقٌ لفصائل المقاومة الفلسطينية، فقد كانت موازين القوى في السابق تسمح للعدو بشن حروبه العسكرية من دون أيّ اعتبار لردّ فعل المقاومة الفلسطينية، التي لم تكن على القدر نفسه من القوة والجاهزية، كما هي عليه اليوم.
إنَّ المعركة في القدس اليوم هي معركة إرادات، فالعدو يحاول فرض إرادته على أهل الأرض مع مراعاة عدم الذهاب إلى اشتباكٍ عسكريٍ، وأهل الأرض يتصدون لاعتداءات الاحتلال واستفزازاته من دون استعجال الدخول في صدامٍ عسكريٍ جديدٍ، إلا إذا تعرض المسجد الحرام والقبَّة المشرفة للتهديد.
وفي معركةٍ كهذه، تكون الغلبة لمن كان أقوى إرادةً وأطول نفساً، إضافة إلى كون معارك كهذه تستلزم وحدة الساحات في الضفة والقدس، بحيث لا تتحمل غزة وحدها عبء المعركة عسكرياً.
إنَّ الخلل التكتيكي الذي وقعت به المقاومة الفلسطينية في إدارة معركة يوم 29 أيار/مايو 2022 من الناحيتين الإعلامية والسياسية، عبر اتباعها سياسة الغموض المقصود، أتاح للعدو تحقيق إنجازٍ شكليٍ أو تكتيكيٍ في أفضل حالاته، لكن هذا الإنجاز لا يغير من واقع الحال وتوازنات القوى على الأرض، فالتقدُّم الذي أحرزته فصائل المقاومة الفلسطينية في "سيف القدس" كان تقدماً استراتيجياً، والإنجاز الاستراتيجي لا يمكن إبطال مفاعيله إلا بعملٍ استراتيجيٍ مضادٍ، وهذا ما لم يحصل يوم 29 أيار/مايو 2022.
في واقع الأمر، إن طريقة إدارة المقاومة الفلسطينية للمعركة إعلامياً وسياسياً يوم 29 أيار/مايو 2022 منحت العدو إنجازاً صورياً، أقلُّه في أذهان الجماهير المؤمنة بخيار المقاومة. وهنا، يصير حرياً بالمقاومة الفلسطينية التعامل مع هذا المستَجَد وإبطال مفاعيله، وهذا ليس هدفاً معقداً، فصورة الإنجازات الشكلية يمكن تحطيمها بعملٍ تكتيكيٍ مدروسٍ لا يفضي إلى جولة تصعيدٍ واسعةٍ.
يخوض الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة معركة التصدي لمحاولات تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وهي معركةٌ مستمرةٌ بصورة شبه يومية، وذلك مع الاقتحامات المتكررة لقطعان المستوطنين لساحات الأقصى وما يرافقه من تصدي المقدسيين لهم، ومعهم أهالي الضفة الغربية وفلسطينيو 1948، وهي معركةٌ طويلة الأمد نسبياً، تلزمها استراتيجية مبنيةٌ على أساس عامل الزمن، وتفرض على فصائل المقاومة تفعيل ساحات الضفة الغربية والقدس المحتلة، كي لا يبقى العبء على فصائل غزة وحدها.
أما خطر الاعتداء على المسجد الحرام والقبَّة المشرفة، إما بالإحراق وإما بالهدم، فقد أخذت المقاومة المسلحة في غزة مع باقي فصائل محور القدس على عاتقها دفع هذا الخطر. ويبدو أن هذه الحال ستستمر إلى حين تبلور موازين قوى جديدة تفرضها الوقائع في الأيام المقبلة.