مسيرة الأعلام والسير على حافة الهاوية

تؤكد التطورات في فلسطين، بصرف النظر عن "مسيرة الأعلام" الصهيونية ومآلاتها، أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تثبيت قضية القدس كعنوان جامع.

  • مسيرة الأعلام والسير على حافة الهاوية
    مسيرة الأعلام والسير على حافة الهاوية

عادت القدس، كما كانت دوماً، العنوان الأبرز الذي يفرض نفسه على مسار الأحداث في المنطقة، على نحو استدعى تشغيل خط دبلوماسي دولي وإقليمي للتواصل المباشر مع العدو وقيادة المقاومة، من أجل منع تجاوز المسيرة الاستفزازية الخطوط الحمراء، عبر تنفيذ اجتياح واسع لباحات الأقصى، ورفع أعلام العدو داخله، وأداء صلوات تلمودية في أرضه الطاهرة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصدي المقدسيين لقطعان المستوطنين وقوات الاحتلال وارتقاء شهداء وجرحى، على نحو سيدفع المقاومة في مختلف الجبهات إلى رد عسكري قد يتطوّر إلى مواجهة واسعة متعددة الجبهات.

على الرغم من ابتعاد قيادة المقاومة عن إطلاق تهديدات علنية على نطاق واسع، قبل انطلاق المسيرة الصهيونية، واكتفاء القوى الفلسطينية بتنظيم فعاليات وطنية وشعبية لرفع العلم الفلسطيني، ولا سيما الحشد البارز في مخيم العودة شرقي مدينة غزة على بعد أمتار عن الجدار العسكري لجيش العدو، بالإضافة إلى سعي قيادتي العدو الأمنية والسياسية، عبر كل الوسائل، قبل المسيرة وفي أثنائها، لإرسال رسائل تؤكد عدم رغبتها في تصعيد الموقف والتزامها الوضع الراهن في الأقصى وعدم سماحها برفع أعلام العدو أو أداء الصلوات اليهودية داخله، فإن كل الأطراف بدت كأنها تسير على حافة الهاوية.

فالعدو أبدى مستوى مرتفعاً من الجاهزية والاستعداد، كأنه على شفا الحرب، والمقاومة رفعت مستوى الاستنفار وراقبت المشهد لحظة بلحظة، ولم تغب عيناها عن المشهد الاستفزازي لقطعان المستوطنين، كما برزت مشاهد لقوات العدو تمنع رفع أعلام الاحتلال داخل الأقصى، ومنعت المقدسيين من فتح محالهم التجارية في باب العمود، ومنعت تجمعهم قبيل وصول مسيرة الأعلام الصهيونية، الأمر الذي عكس خشية العدو من أن يؤدي سلوك غير محسوب إلى رد عسكري من المقاومة، وهو ما فسرته أوساط العدو الأمنية بأن أي حديث عن استعادة الردع بعد معركة "ثأر الأحرار"، يُعَدّ مبالغاً فيه، ووجهت انتقادات إلى تصريح بيبي نتنياهو بشأن ترميم الردع بعد العدوان الأخير على غزة.

انتهت مسيرة الأعلام الصهيونية، الخميس، ولم تنته آثارها وتقدير مآلاتها، في المديين القريب والمتوسط، فلا تزال مشاهد الاستفزاز والاعتداء، جسدياً ولفظياً، على المقدسيين والمقدسيات، وشتم زعران المستوطنين للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، واقتحام آلاف المستوطنين باحات الأقصى، وبينهم أعضاء كنيست ووزير صهيوني، ومشاركة وزراء في حكومة نتنياهو في مسيرة الأعلام، تؤرّق كل فلسطيني وعربي ومسلم، في ضوء استمرار سلوك العدو والمستوطنين في الاعتداء على الأقصى والمقدسيين، الأمر الذي سيُبقي العدو والمقاومة في حالة استنفار، ونقدّر أن الأيام المقبلة ستشهد مزيداً من عمليات المقاومة الفردية والمنظمة، والتي ستأتي رداً على مسيرة الأعلام الصهيونية وما صاحبها من استعراض استفزازي مس المشاعر الوطنية والقومية والدينية.

يسعى العدو، من خلال تصميمه على تنظيم مسيرة الأعلام، لتأكيد ما يسميه "السيادة على القدس"، من جهة، وإجهاض أحد مكتسبات معركة "سيف القدس"، وترميم الردع من جهة أخرى، كما سعى نتنياهو لاستعادة ثقة جمهور اليمين، بعد تراجع شعبيته على النحو الذي كشفته استطلاعات الرأي مؤخراً، إلى جانب حرصه على تحقيق التماسك داخل حكومته.

تدرك المقاومة مرامي العدو وحكومته، وهي لا تدير الصراع معه في إطار حساباته الداخلية، ولا تتعامل وفق ردود الأفعال اللحظية، باعتبار أن الشعب الفلسطيني والمقاومة يسعيان لاستعادة القدس وتحريرها. وبالتوازي، تعمل على مواجهة آثار الاحتلال والعدوان، الأمر الذي سيدفع المقاومة إلى تثبيت أحد أبرز أهدافها التي تحققت بعد معركة "سيف القدس"، وهو كبح إجراءات العدو ومواجهتها وتعطيل سلوكه التهويدي، في القدس والمسجد الأقصى، وذلك عبر تفعيل أكبر لمختلف الساحات والجبهات، في إطار التنسيق المشترك بين مكونات المقاومة في المنطقة، ضمن رؤية استراتيجية شاملة لمواجهة العدو.

تؤكد التطورات في فلسطين، بصرف النظر عن "مسيرة الأعلام" الصهيونية ومآلاتها، أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تثبيت قضية القدس كعنوان جامع، وطنياً وقومياً وإسلامياً، في الصراع مع العدو، لتصبح أي خطوة استفزازية للعدو في القدس والمسجد الأقصى بمنزلة صاعق تفجير كفيل بإشعال المنطقة، الأمر الذي يستدعي استنفار الأطراف الدولية كافةً، من أجل التدخل والضغط على العدو، وتحميله مسؤولية التصعيد، وهو ما يُبقي القضية الفلسطينية حاضرة، في الأجندة العالمية، ويجنّد مزيداً من المتعاطفين معها في الأوساط الشعبية، ويساهم في عزل الاحتلال الإسرائيلي ونزع الشرعية عنه.

إن إخفاق العدو في حسم "سيادته" على القدس بعد 75 عاماً على احتلالها، على رغم تمتعه بكل أدوات القوة والبطش والدعم الدولي، يُعَدّ نجاحاً للشعب الفلسطيني ومقاومته، التي تمكنت من فرض معادلة وحدة الساحات والجبهات خلف قضية القدس والمسجد الأقصى، إلى جانب تعرية "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، وتعزيز حالة الاستقطاب والخلاف داخل "مجتمع" العدو، حتى تحولت القدس من قضية تحظى بإجماع داخلي إسرائيلي إلى قضية خلافية.

نجحت المقاومة الفلسطينية في تحويل أنظار العالم نحو القدس، وتصحيح اتجاه البوصلة نحو القدس، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، واستطاعت المقاومة أن تفرض على العدو والعالم معادلات جديدة في القدس، حوّلت أي سلوك إسرائيلي استفزازي في القدس إلى كابوس، بعد أن سعى العدو لتثبيت "مسيرة الأعلام" فيها كاحتفالية اعتيادية وتقليدية كل عام، فتحولت إلى خطوة تحتاج إلى تقدير موقف من أعلى دوائر صنع القرار الصهيوني، سياسياً وعسكرياً، وباتت المنطقة والعالم يترقبان وينتظران موقف المقاومة ورد فعلها، وبات الكيان الإسرائيلي كأنه يقف على قدم واحدة.

 يسعى العدو وأجهزة المعلومات والاستخبارات لديه لقراءة نيّات قيادة المقاومة. وعلى رغم تقديره أن "مسيرة الأعلام" ستمرّ من دون رد عسكري من المقاومة، فإن فشل أجهزة العدو الأمنية في توقع قرار المقاومة إطلاق الصواريخ نحو القدس العام الماضي، والذي شُبه بفشل الاستخبارات العالمية في توقع انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي، يبقى هاجساً يضع العدو ودوائر صنع القرار لديه في حالة الشكّ وانعدام اليقين، على نحو سيزيد في حدة الانقسامات والمزايدات داخل أوساطه الحزبية والسياسية والأيديولوجية.