هل تبقى تايوان بمعزل عن الصدام الدولي؟
زيارة رئيسة تايوان تساي إنغ وين للولايات المتحدة لم تكن أهم حدث، كما حاولت وسائل الإعلام إظهارها، فقد كان الحدث المهم والبارز هو زيارة زعيم الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) ما ينغ جو لبكين.
-
من لقاء الرئيس الصيني مع ما ينغ جو زعيم الكومينتانغ (أرشيف)
تشهد منطقة بحر الصين الجنوبي توتراً غير مسبوق، هدفه المزيد من الضغط على بكين لتغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا أو استنزافها عبر استنساخ النموذج الأوكراني في تايوان.
هذا التوتر ينذر بالمواجهة، لكنه لا يجعلها خياراً حتمياً في ظل سعي بكين لتجنبها والتركيز على الوقت كمكسب صلب يسير في مصلحتها ويخدم هدفها الرئيس، وهو استعادة تايوان وتوحيد الأمة الصينية.
إنَّ زيارة رئيسة تايوان تساي إنغ وين للولايات المتحدة لم تكن أهم حدث، كما حاولت وسائل الإعلام إظهارها، فقد كان أهم حدث هو زيارة ما ينغ جو، زعيم الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ)، لبكين.
ضجت وسائل الإعلام بخبر زيارة رئيسة تايوان للولايات المتحدة، رغم أنها لم تكن زيارتها الأولى، فقد سبق أن زارت أميركا 6 مرات، وبلغ مجموع زيارات رؤساء تايوان إلى الولايات المتحدة نحو 140 زيارة.
تلك الزيارات لا توصف بأنها رسمية، بل تعطى صفة العبور أو التوقف أو الترانزيت، وهي عبارات دبلوماسية تهدف إلى تأكيد التزام الولايات المتحدة بمبدأ الصين الواحدة، مع استخدام تايوان ورقة ضغط على بكين.
ما يميّز هذه الزيارة التي وصفت بأنها زيارة توقف أو عبور (ترانزيت) خلال رحلتها إلى أميركا الوسطى، هو أنها استغرقت وقتاً أطول، بمعنى أنَّ السلطات الأميركية قامت بمنحها تأشيرة دخول، وهو ما يزيد الغضب الصيني على هذه الزيارة، فهذا يعني توافقاً في الرأي بين الحكومة الأميركية برئاسة بايدن (الديمقراطي) وتوجهات مجلس النواب برئاسة مكارثي (الجمهوري).
هذا التوافق يعزز مخاوف بكين، ويجعلها تبدو أكثر حزماً وصلابةً في دفاعها عن الجزيرة، بعدما بدأت تفقد الأمل بإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة مع الولايات المتحدة الأميركية. كل المعطيات على الأرض تشير إلى أنَّ الوقت يمضي لمصلحة بكين، وأن استعادة الجزيرة لم تعد أمراً بعيد المنال، وبالطرق غير العسكرية ربما.
كانت بكين، وفي سعيها لاستعادة تايوان، تركز على العاملين الداخلي والخارجي. على الصعيد الداخلي، قامت بمجموعة من الإجراءات، أهمها:
- العمل على دعم المعارضة السياسية لتايوان، وخصوصاً الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ)، الذي أصبح من أشد مؤيدي العودة إلى الوطن الأم، بعدما كان الحزب الانفصالي الذي تسبب بالحرب الأهلية الصينية (1927 – 1950) التي انتهت بفرارهم إلى تايوان وانفصال الجزيرة.
- استضافت بكين في الفترة الممتدة من 27 آذار/مارس ولغاية 7 نيسان/أبريل زعيم حزب الكومينتانغ، وهي أول زيارة له منذ انفصال الجزيرة.
- جرت الزيارة بعيداً من الإعلام أو الحديث عن لقاء المسؤولين الصينيين، وقيل إنه سيزور عدة مناطق ومدن في الصين.
- ستكون هناك انتخابات في نهاية العام المقبل في تايوان، وستسعى بكين لنجاح المرشح عن حزب الكومينتانغ فيها.
- كانت هناك انتخابات محلية في تايوان في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وقد حصل الكومينتانغ على 13 بلدية (من بينها بلدية العاصمة تايبيه)، من أصل 22 بلدية في تايوان.
- لم يحصل الحزب الديمقراطي الذي كانت تتزعمه تسي إلا على 5 بلديات، وذهبت بلديتان إلى مستقلين، وبلدية واحدة إلى حزب شعب تايوان.
- على وقع هذه الانتخابات، استقالت رئيسة تايوان تسي من رئاسة الحزب، ليخلفها نائب الرئيس لاي تشينج تي، ليكون المرشح المقبل لرئاسة تايوان في الانتخابات التي ستجري في تشرين الثاني/يناير 2024.
- تعمل بكين على التأثير في الشباب واستقطابهم من خلال المنح الدراسية وفرص العمل أو عبر إرسال أعداد كبيرة من الطلبة الصينيين للدراسة في تايوان أو العمل فيها.
- يوجد في الصين شركات ضخمة لرجال أعمال من تايوان يقدر عددهم بمليون شخص يعيشون في الصين.
أما على الصعيد الخارجي، فتسعى بكين لاستعادة الجزيرة عبر العمل على "تصفير عدد الدول التي تعترف بتايوان"، وهي تشترط لإقامة علاقات دبلوماسية مع أي دولة أن تقوم تلك الدولة بقطع علاقاتها مع تايوان.
على سبيل المثال، كان عدد الدول التي تعترف بتايوان 56 دولة عام 1971. وفي عام 2016، عندما استلمت تسي الرئاسة في تايوان كان عدد الدول التي تعترف بالأخيرة 22 دولة. أما الآن، فلم يبقَ سوى 13 دولة تقيم علاقات مع تايوان، وغالبية هذه الدول هي دول هامشية أو جزر معزولة.
وقبل أيام، كانت هندوراس قد قطعت علاقاتها بتايوان. لذا، اضطرت تسي إلى زيارة أميركا الوسطى، حيث لم يبقَ سوى دولتين تعترفان بتايوان، هما بيلز وغواتيمالا.
وفي نهاية هذا الشهر، ستكون هناك انتخابات رئاسية في الباراغواي. وفي حال فوز مرشح المعارضة إفراين أليغري، فإنه سيعلن قطع العلاقات مع تايوان، وبالتالي المزيد من الهزائم بالنسبة إلى تسي التي تنتظرها الانتخابات في العام المقبل.
الرد الصيني
القراءة السريعة والسطحية لطبيعة الرد الصيني على زيارة رئيسة تايوان ولقائها مكارثي يجعلنا نعتقد أن رد بكين هو، كما كان في كل مرة، إجراء مناورات عسكرية في محيط الجزيرة، ومزيد من التهديدات والتصريحات، لكن ذلك في الواقع ليس صحيحاً.
في الحقيقة، ربما جاء الرد الصيني قبل ذلك بكثير، بمعنى أنّ بكين رأت في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر التي جرت في تايوان مؤشراً قوياً على رغبة الشعب في الجزيرة في العودة إلى الوطن الأم. لذا، استقبلت تايوان زعيم حزب الكومينتانغ مع وفد من أساتذة وطلبة الجامعات، الذين تسعى من خلالهم لتعزيز نفوذها هناك ودعم مرشح الحزب للانتخابات المقبلة.
على الصعيد الخارجي، صعدت بكين لهجتها ونبرة خطابها السياسي بعد زيارة الرئيس شي إلى موسكو، بدءاً من تاريخ الزيارة، الذي جاء بعد يومين من إصدار محكمة الجنايات الدولية قراراً بحق الرئيس بوتين، وتأكيد الرئيس شي عمق الصداقة بينهما، وانتهاء بالنتائج الإيجابية لتلك الزيارة.
وعند عودة الرئيس الصيني، جرى الحديث عن أن الرئيس بايدن طلب التحدث إليه، لكن الصين رفضت ذلك، وقالت إنه ليس هناك ما يستوجب هذا اللقاء، وهي المرة الأولى ربما التي تتصرف بها بكين بهذه الطريقة.
يبدو أنَّ بكين باتت تستشعر عدم جدوى التواصل مع إدارة بايدن، فهي لا تلتزم بالوعود التي تم الاتفاق عليها بين الرئيسين في الاجتماعات السابقة، كما أنَّ هذه الإدارة لديها الكثير من المشكلات، بدءاً من الأوضاع الاقتصادية السيئة، وإفلاس المصارف، وصولاً إلى الفضائح السياسية والجنائية التي يتعرض لها الرئيس السابق ترامب، والتي تنذر بمزيد من الانقسام داخل المجتمع الأميركي.
تسعى بكين بقوة للعمل على إضعاف الدولار عبر المزيد من اتفاقيات التعاون والتبادل بالعملات الوطنية، كما حدث في الآونة الأخيرة مع البرازيل وفرنسا، وتحاول إقناع بعض الدول الأوروبية وتشجيعها على الخروج من العباءة الأميركية والبحث عن مصالحها، وخصوصاً أن أوروبا كانت أكبر خاسر من الحرب في أوكرانيا.
ولعلّ الزيارة الأخيرة للرئيس ماكرون إلى بكين تصبّ في هذا الاتجاه، فتصريحات ماكرون عن ضرورة بحث الدول الأوروبية عن مصالحها والتقليل من اعتمادها على الدولار الأميركي ستكون البداية لمواقف دول أوروبية أخرى.
أمّا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي استبقت زيارتها لبكين بتصريحات تؤكد ضرورة الضغط على الصين لتغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا، فقد لقيت تجاهلاً تاماً من الحكومة الصينية، إذ استقبلتها وزيرة البيئة في الصين، وهو أمر لا يتلاءم مع صفة فون دير لاين ووضعها.
وقد اضطرّت إلى مغادرة الصين في رحلة طيران عادية مثل أي مسافرة عادية، بعدما تحقق أمن المطار من جواز سفرها، ما أثار غضبها بشكل شديد. وتعدّ فون أقوى المرشحين لرئاسة حلف الناتو، وهو ما دفعها ربما إلى رفع لغة خطابها ضد بكين.
يبدو أنَّ العالم تغيَّر فعلاً، وأن بكين باتت تدرك مكامن قوتها، وتعمل على استثمارها بالنحو المناسب. يبقى عليها الاستمرار في نهجها السلمي لاستعادة تايوان، من دون أن تضطر إلى الانجرار إلى أي معركة سيكون الهدف منها استنزافها وعرقلة تطورها.