هل نجحت بكين في إفشال قمة العشرين قبيل انعقادها؟

تأتي قمة العشرين الثامنة وسط توترات كبيرة تشهدها العلاقات الصينية -الهندية، نتيجة لأسباب تاريخية، ومشكلات حدود، هل تزداد الفجوة بين بكين ونيودلهي؟

  • قمة العشرين.
    قمة العشرين.

رسائل كثيرة وجهتها بكين عبر إعلانها عدم مشاركة الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة العشرين التي ستعقد بعد أيام في الهند. تلك الرسائل شكلت صفعة للهند، والولايات المتحدة وحلفائها، وأكدت التقارب بين موقفي البلدين (الصين وروسيا)، اللذين لن يشارك رئيساها في أعمال القمة.

هي المرة الأولى التي لن يشارك فيها الرئيس الصيني شخصياً في فعاليات هذه القمة، إذ حرص الرؤساء الصينيون على المشاركة فيها منذ تأسيسها. تساؤلات كثيرة طرحت حول غياب الرئيس الصيني، نظراً إلى تأثير هذا الغياب على نجاح المؤتمر، ومستقبل عمل المجموعة بشكل عام.

فقبل أيام، كانت مشاركة الرئيس الصيني فاعلة ومؤثرة خلال قمة "بريكس" التي عقدت في جنوب أفريقيا، والتي لعبت الصين دوراً رئيساً في توجيه أعمالها. كان المحور الأهم في جدول أعمال القمة هو توسيع "بريكس" وقبول أعضاء جدد، وهو ما تحقق وفقاً لتوجهات بكين التي كانت الرابح الأكبر من القمة.

ازدياد الفجوة بين بكين ونيودلهي

تعقد في العاصمة الهندية نيودلهي يومي السبت والأحد المقبلين 9-10 أيلول/سبتمبر القمة الثامنة عشر لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، والتي تتكون من 19 دولة، والاتحاد الأوروبي.

ويمثل أعضاء مجموعة العشرين نحو 85 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من 75 ٪ من حجم التجارة العالمية التي قدّرها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بـ 32تريليون دولار، ونحو ثلثي عدد سكان العالم.

تأتي القمة وسط توترات كبيرة تشهدها العلاقات الصينية-الهندية، نتيجة لأسباب تاريخية، ومشكلات حدود، وتوجهات لدى القيادة الهندية التي ترى نفسها أقرب إلى الجانب الغربي عموماً، والأميركي على وجه التحديد.

شاركت الهند في عدد من المناورات المشتركة مع الولايات المتحدة، والتي تستهدف الصين بشكل واضح. كما أن الهند عضو في التحالف الأمني الرباعي المعروف باسم "كواد"، الذي تأسس في العام 2007، والذي ترى فيه بكين تهديداً عسكرياً وأمنياً لها.

إضافة إلى مشاركة الهند في قمة "الناتو"، وإرسالها طائرات مقاتلة إلى فرنسا واليونان للمشاركة في مناورات مشتركة مع "الناتو". ولعل الخلاف الأكبر بين البلدين يتمثل في موقف الهند من قضية تايوان، والصعود الهندي المتنامي والمنافس للصين. بل إن الهند بدأت تتجاوز بكين في بعض المؤشرات، إذ باتت الدولة الأولى في العالم من حيث عدد السكان.

التناغم مع الموقف الروسي

غياب الرئيس الروسي يمكن تفهمه من جهة انشغاله بالحرب في أوكرانيا، والأوضاع الداخلية في روسيا، خاصة وأنه لم يشارك العام الماضي في القمة التي عقدت في إندونيسيا. لكن وسائل الإعلام، وخاصة الغربية منها، حاولت ربط غياب الرئيس الروسي بقرار المحكمة الجنائية الدولية الذي صدر بحقه.

هذا القرار قد يكون أحد الأسباب التي منعت بوتين عن الحضور، لكنه بكل تأكيد ليس هو السبب الوحيد أو الرئيسي، خاصة وأن الاجتماعات التحضيرية للقمة قد شهدت انقساماً بين الأعضاء، بعد أن أثارت الدول الغربية مخاوف تتعلق بالحرب الروسية في أوكرانيا والموقف من الصين.

وبات بعض الدول الأوروبية (إيطاليا) يهدد بالانسحاب من مبادرة "الحزام والطريق" التي تضم اليوم 151 دولة، و32 منظمة دولية، إذ ترى إيطاليا أن تجارتها لم تتحسن بعد انضمامها إلى مبادرة "الحزام والطريق". في حين ترى بكين أن روما خضعت للضغوط الأميركية التي طالبتها بالانسحاب من المبادرة وتقليل التعاون مع الصين.

تلك الانقسامات دفعت وزير الخارجية الروسي لافروف إلى التهديد بمنع صدور بيان ختامي عن القمة، إذا لم تنصَع الدول الغربية وتتفهم المواقف الروسية. وهو ما يعني صدور بيان جزئي وغير ملزم، وبالتالي تكريس الانقسام داخل دول المجموعة، التي بدأت كمنتدى اقتصادي، لكنها أصبحت عرضة للتجاذبات السياسية التي باتت تهدد مستقبلها. 

لم تعد الانقسامات فقط بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، بل باتت بين دول الشمال ودول الجنوب بشكل عام، في ظل غياب الثقة بتلك الدول، وعدم مساعداتها لدول الجنوب الفقيرة.

وباتت اليوم عشر دول نامية مهددة بالإفلاس، منها ثلاث دول عربية، هي لبنان ومصر وتونس. كما أن هذه الدول عرضة للابتزاز من جانب الدول الكبرى، وأدواتها المتمثلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. 

لذا، فقد باتت سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي محط شجب من العديد من الدول الفقيرة، التي ضاقت ذرعاً من تلك السياسات، فاتجهت إلى الاقتراض من بكين، أو بنك "بريكس"، وهو ما جعل واشنطن تشن حملة كبيرة على الصين، وفقاً لما سمّته بـ "فخ الديون" الصيني. 

لكنّ بكين ردت على ذلك خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي الذي عقد عن بعد في العام 2021، حيث قامت بإلغاء 23 قرضاً من دون فائدة، على 17 دولة أفريقية تأخرت عن السداد المستحق في العام 2021.

واليوم، فإن نحو 60 % من الإقراض الخارجي للصين يذهب إلى البلدان التي تواجه أزمات ديون حادة في محاولة لمساعدتها على الخروج من أزماتها المتفاقمة.

وتسببت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا في عرقلة تدفق العملات الأجنبية من البلدان النامية التي تعد جزءاً من مبادرة "طريق الحرير"، وهو ما يزيد من المخاوف من تعثر تلك الدول عن السداد.

كذلك تعرضت روسيا لاتهامات أميركية وغربية بعرقلة تصدير الحبوب من أوكرانيا إلى دول العالم، عبر استهدافها لتلك السفن. وهو ما نفته موسكو، بل ذهبت أبعد من ذلك، إذ أكد الرئيس بوتين، أنّ بلاده قادرة على تعويض الحبوب الأوكرانية في السوق العالمية، سواء على أساس تجاري أو بالمجان. ثم، أعلن وزير الزراعة الروسي، دميتري باتروشيف، أنّ بلاده ستورد نحو 50 ألف طن من الحبوب إلى 6 دول أفريقية مجاناً.     

عدم الرغبة في لقاء بايدن

جرى الحديث عن إمكانية عقد لقاء بين الرئيسين الصيني والروسي على هامش قمة العشرين، لكن ذلك أصبح مستحيلاً، وهو ما جعل الرئيس بايدن يعبّر عن خيبة أمله لعدم مشاركة الرئيس شي في القمة. 

وكان الرئيسان قد التقيا على هامش قمة العشرين في إندونيسيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، لكن واشنطن لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه بين الطرفين، وفقاً لتصريحات المسؤولين الصينيين.

وفي الآونة الأخيرة، ازدادت الاستفزازات الأميركية لبكين، وخاصة في ما يتعلق بقضية تايوان، والحرب التجارية بين البلدين، ودور واشنطن في تعزيز الصراعات بين الصين وجاراتها من دول منطقة بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من اللقاءات بين مسؤولي البلدين، فإن العلاقات بينهما لم تحرز تقدماً يذكر، بل إن احتمالات المواجهة باتت كبيرة.

تلك المواجهة التي تريدها واشنطن "حرباً بالوكالة"، عبر سعيها لاستنساخ النموذج الأوكراني في منطقة بحر الصين الجنوبي. وهو الأمر الذي تعيه بكين جيداً، وتسعى إلى عدم وقوعه، بتغليب الحكمة وضبط النفس حيناً، وباتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية في أحيان أخرى.

واليوم، لم تعد تايوان هي فقط البؤرة المهددة بالاشتعال في أي لحظة، بل باتت دول أخرى (مثل الفلبين واليابان وأستراليا) مرشحة لحدوث نزاع ومواجهة مباشرة مع الصين، خاصة وأن تلك الدول دخلت في معاهدات عسكرية مع واشنطن، وزادت من موازناتها العسكرية في السنوات الأخيرة وبشكل كبير.

وعلى الرغم من محاولات بكين للتهدئة، فإن "لعنة الجغرافيا" تلعب دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات في تلك المنطقة، حيث تشهد تغيرات طبيعية مستمرة، إضافة إلى الاكتشافات من الثروات الطبيعية فيها، والتي تسهم في خلق أزمات مستجدة بين دول المنطقة والصين.

كما أثارت حرب الرقائق الإلكترونية بين بكين وواشنطن مزيداً من التوتر والتصعيد بين البلدين.    ولعل الإعلان الأخير عن نجاح شركة "هواوي" الصينية في صناعة أعقد أنواع الرقائق الإلكترونية سيفتح صفحة جديدة من المواجهة بين البلدين، وخاصة في مجال الحروب التجارية المستعرة بينهما.

كما أن الحديث عن سعي بكين لافتتاح قاعدة عسكرية جديدة لها في كمبوديا سيسهم في تعزيز سباق التسلح بين البلدين.

هل يشكل غياب الرئيس الصيني فرصة لبايدن

حاول البعض التقليل من أهمية غياب الرئيس الصيني عن القمة، إذ قال المستشار الألماني شولتس: "إن القمة ستظل مهمة، رغم غياب روسيا والصين". كما عدّ البعض غياب الرئيس الصيني فرصة لبايدن للتقرب أكثر من الدول الفقيرة، وخاصة الدول الأفريقية، إذ تسعى القمة إلى ضم الاتحاد الأفريقي إلى المجموعة.

لكن ذلك غير مجد من الناحية العملية، فالدول الفقيرة كانت لها تجربتها السيئة في التعاطي مع الولايات المتحدة، التي مارست ضدها أقسى درجات النهب والعنصرية.

فالنموذج الصيني يشكل عامل جذب لتلك الدول، حيث استطاعت بكين تقديم نفسها كنموذج ناجح لدولة نامية صعدت إلى القمة بالاعتماد على ثرواتها ومقدرات شعبها. كما أن الصين كانت حاضرة في معالجة الأزمات الإنسانية التي تعرضت لها تلك الدول، وخاصة أزمة كوفيد 19.

لكل تلك الأسباب وغيرها، فإن الولايات المتحدة لم تعد بديلاً للصين، أو منافساً لها في التعاطي مع الأزمات التي تعيشها دول الجنوب، وهو ما يجعل الشعار الذي طرحته نيودلهي ليكون عنواناً للقمة (أرض واحدة -عائلة واحدة -مستقبل واحد)، بعيداً كل البعد عن الواقع. وربما كان الأفضل لها أن تطرح المشكلات التي باتت غير قابلة للتأجيل وهي: (فقر-مديونية-مناخ).

تلك الأسباب وغيرها، ربما دفعت الرئيس الصيني إلى عدم المشاركة في قمة العشرين التي ستعقد في نيودلهي، بهدف توجيه صفعة للهند والعمل على الحد من طموحاتها، والسعي لتعزيز مكانة "بريكس" التي باتت قوة لا يستهان بها، بعد القرار الأخير بتوسيعها لتصبح 11 دولة.

في ظل هذه الانقسامات فإن قمة العشرين يبدو وكأنها قد ولدت ميتة. وبات سقف الطموحات أن يتم التوافق بين المجتمعين على بيان ختامي، كي لا تكون هذه القمة بداية النهاية في تاريخ المجموعة.