جيمس جيفري: عنوان الانقسام الأميركي

لم يكن جيمس جيفري سوى نموذج من نماذج الصراع داخل الولايات المتحدة، والذي سيستمرّ وفقاً لمستويات متعددة، منها الظاهر ومنها المستتر.

  • جيمس جيفري منذ استلامه الملفّ السّوري 2018، كان من الواضح دعمه الكبير لتوجّهات إردوغان في الداخل التركي
    جيمس جيفري منذ استلامه الملفّ السّوري 2018، كان من الواضح دعمه الكبير لتوجّهات إردوغان في الداخل التركي

بقيت الصّين وروسيا في موقع التهديد للهيمنة الغربية منذ 3 قرون، رغم تناوبهما في السيطرة على مسارات حركة التاريخ الحديث. ولم يختلف الأمر بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية بين الدول الأوروبية وتسلّم الولايات المتحدة دور الدولة العظمى في العالم.

قادت الدّولة العميقة التي يشكّل البنتاغون والمخابرات المركزية الأميركية رأس جبل جليدها معركة منع الدولتين من الوصول إلى مرحلة تهديد مكانة واشنطن كمركز لإدارة السياسات العالمية، إدراكاً منها بأنَّ قارة آسيا بقواها المتعددة هي التي تمتلك الإمكانيات الحقيقية لتكون في صدارة المشهد الدولي. ورغم نجاحها في إسقاط روسيا بشكلها السوفياتي، فإنها استمرَّت في ملاحقتها لمنع عودتها إلى مكانتها.

إلى هذه المدرسة ينتمي جيمس جيفري الذي وُلد مع ولادة الدولة العميقة بعد الحرب العالمية الثانية بعامين، وانتمى إليها كضابط في مشاة البحرية الأميركية في فييتنام وألمانيا، بعد حصوله على بكالوريوس في الفنون من جامعة بوسطن، لينشط بعدها في مكتب العلاقات الخارجيّة، وكسفير دبلوماسي في ألبانيا والعراق وتركيا، مع إتقانه 4 لغات أهَّلته للتعمّق في شؤون الشرق الأوسط، أياً كان المسيطر على السياسات الأميركية، سواء كان الجمهوريين أم الديموقراطيين.

أثار جيفري الكثير من اللغط حول حقيقة الموقف الأميركي من الحرب على سوريا، بعد أن تم تكليفه باستلام إدارة الملف السوري ضمن الإدارة الأميركية كممثل لوزارة الخارجية، وخصوصاً بعد أن استطاع التيار اليميني الشعبوي في الولايات المتحدة الوصول إلى سدّة الرئاسة الأميركية ممثلاً بدونالد ترامب، الذي خرج عن سياق سياسات الدولة العميقة بمناهضته لسياسات العولمة، والعمل على سحب القوات الأميركية، وخصوصاً في أفغانستان وسوريا والعراق، ومحاولة التقرب من روسيا التي تعتبر تهديداً دائماً للغرب، وفق تصور هذه الدولة العميقة.

ومنذ استلامه الملفّ السّوري بتاريخ 18 آب/أغسطس 2018، كان من الواضح دعمه الكبير لتوجّهات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الداخل التركي، فاعتبر أنَّ عملية انتخابه في الرئاسة ستساعد في تحسين العلاقات الأميركية التركية، وذهب بعيداً في دعمه لسياساته في سوريا، إلى درجة تساؤله في مقال له في معهد واشنطن: "هل سيؤدي التقدم الأميركي - التركي في منبج إلى تعاون أكبر في سوريا؟".

 كما أظهر عدوانيّة واضحة وشرسة لدمشق في تصريحاته وعمله، وخصوصاً بعد أن وضع خطاً أحمر على منع اقتحام إدلب وتحريرها، واعتبارها قلعة للمعارضة السورية، على الرغم من سيطرة تنظيم القاعدة ومتفرعاته عسكرياً عليها، إضافةً إلى عداوة واضحة للكرد الأوجلانيين في شمال سوريا، والضغط عليهم لمصلحة تركيا والمجلس الوطني الكردي الذي ينتمي إلى الائتلاف المعارض الذي ترعاه أنقرة وأربيل.

وعلى العكس من محاولات ترامب لإيجاد تفاهم وتنسيق مع بوتين في الكثير من الملفات، بما في ذلك في سوريا، فإنَّ السياسات التي اتّبعها كانت تعمل على إيجاد مستنقع سوري تغرق به روسيا، مستفيداً من التجربة السابقة في أفغانستان.

أما ذروة السياسات المخادعة، فقد كانت بعد استقالته بعدة أيام من ظهور النتائج الأولية للانتخابات الأميركية بفوز المرشح الديموقراطي جو بايدن كممثل للدولة العميقة، ليكشف حجم الخداع الذي مارسه مع زملائه على الرئيس ترامب، الذي كان يعتقد بعد سحب القوات الأميركية من غرب الفرات ومناطق واسعة في شرقه، بأن عدد القوات لا يتجاوز 200 جندي أميركي، بينما اعترف جيفري بأنَّ العدد أكبر من ذلك بكثير، ورفض أن يحدده بـ900 جندي، ما يشير إلى وجودهم بالآلاف، وبأكبر كذبة.

كما تم إحباط قرار انسحاب ما تبقى من جنود أميركيين في الشمال السوري أكثر من مرة مع زملائه، باستخدام 5 حجج هي نفسها في كل مرة، فكانت الاستقالة تعبيراً واضحاً عن انتهاء مهمته داخل إدارة ترامب، لكن لصالح البنتاغون والـ"CIA"، ما كشف بدوره حجم الانقسام الأميركي الكبير الذي يحصل لأول مرة بهذا الحجم في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في العام 1861، والتي استمرت 5 سنوات.

وعلى الرغم من كلّ المؤشرات التي تؤكد عودة مؤسَّسة العولمة للسيطرة على قرار البيت الأبيض بواجهة جو بايدن وكامالا هاريس، وقدرتها على الإمساك بمفاصل معظم مراكز القرار ظاهراً وباطناً بشخصيات مثل جيمس جيفري الذي يعتبر مثالاً لذلك، فإنّ الانقسام الأميركي سيستمرّ بشكل عموديّ خلال السنوات الأربع القادمة، وسيعزز التيار اليميني الشعبوي قدراته وإمكانياته، وخصوصاً أنه أثبت في الانتخابات الأخيرة بأنه الأكثر صلابةً واندفاعاً وقوةً، متسلحاً بالعصبية العنصرية للأنجلوساكسون ذوي البشرة البيضاء، والكنائس الإنجيلية التي دمجت بين التوراة والإنجيل عقائدياً، في مواجهة تيار يسيطر عليه رأس المال للشركات العابرة للقارات، مع استقطاب المجموعات الأميركية المتضررة من سياسات ترامب داخلياً وخارجياً، والتي لا تلتقي على شيء جامع لها عقائدياً، ووسط شكوك كبيرة بتزوير الانتخابات التي تمت، وخصوصاً بعد استخدام خدمة البريد للتصويت، والاتهام بإشراك الأموات (والحيوانات المنزلية!) بعملية التصويت في الانتخابات.

لم يكن جيمس جيفري سوى نموذج من نماذج الصراع داخل الولايات المتحدة، والذي سيستمرّ وفقاً لمستويات متعددة، منها الظاهر ومنها المستتر، وسيدفعها أكثر وأكثر نحو الانحدار والتراجع، بما يتيح فرصة أكبر للعالم حتى يتنفّس بحرية أكثر، وخصوصاً الصين وروسيا وإيران وبقية الدول التي تبحث عن بديل لنظام غربي هيمن على العالم لثلاثة قرون؛ بديل أقل قهراً ونهباً، وأكثر حلماً بعدالة إنسانية، فأين سنكون من هذا العالم؟