دييغو.. صديق المعنى والجنوب والموت
هل أبصر مارادونا في كلّ كأس يرفعه انتصاراً طبقياً، كما في كل جولة ناجحة لكاسترو في صدّ حصار أميركي؟ هل كان انتصار نابولي بعينيه انتصاراً جنوبياً، كما كوبا؟
قد تبدو المقاربة بين الأسطورة الكروية دييغو مارادونا والأسطورة الثورية السياسية فيديل كاسترو قسريّة، تحت ضغط التوقيت المشترك في الموت، وتحت سطوة الوشم الثوري على كتفه، ولكن في الواقع ثمة ما هو أبعد ويستحق التأمل الكافي!
المزيد من التدقيق في المستطيل الأخضر يحيله إلى مرآة تعكس صورة المجتمعات التي نبتت منها المنتخبات المتبارية، بجمهورها وهتافاتها وألوانها وتكتيكها وكمّ المتعة المزروعة في عيون لاعبيها. إنَّ تسجيل المنتخبات الغربية هدفاً في اللحظات الأولى من المنازلة، غالباً ما ينزع الرغبة في استكمال المشاهدة، ربما لأنَّ حساب الربح والخسارة يمتلك طغياناً سحرياً في نفوس اللاعبين، وهم مواطنون غربيون في نهاية الأمر، ومحكومون كأخوتهم بسعر الفائدة وتأرجح أسعار البورصة.
ولذلك، يكون الحفاظ على النتيجة أغلى من اللحظة. تلك هي الغائية المستبدّة في سيكولوجيا المواطن الغربي، وهو ما لا يعرفه اللاعب اللاتيني الذي انتصر بسلاح المتعة، وكثيراً ما خسر بسبب المبالغة في العبث وغياب التكتيك الأوروبي الصارم، وبسبب الحرية "المفرطة" التي صادرها الغربي شعاراً كاذباً في السياسة.
وفي الحديث عن السياسة، تخلَّص كاسترو كذلك من عبء المؤشرات الكمية، فلم يعنِه أن تكون كوبا الأولى في تصدير السيارات أو الثانية في تصنيع الآليات الثقيلة، ليجد نفسه بعدها متجولاً في شوارع هافانا، يراقب وجوه الماكينات البشرية الكالحة، فبحث عن معيار مغامر ومماثل لحرية دييغو، فكان الناتج القومي المرتفع للسعادة في الدولة، وهذا حقاً ما كان!
كان بإمكان دييغو أن يبيع نفسه سلعة للأندية "النظيفة" الغنية، وهو الأمر الّذي يمقته الرجل، وهو ما شاركه مع كاسترو في أكثر من لقاء. في المحصّلة، انتقل اللاعب الجنوبي، ابن العائلة الفقيرة في الأرجنتين، إلى أوروبا، وانضم إلى جنوبها "المتسخ" والمستضعف والعالق في الأمراض في نابولي، حاملاً النادي معه إلى صفوف الدرجة الأولى وحصد الكؤوس، وكأنه فضَّل الانتصار في المعارك التي يجيدها، وفي الصف الذي يريد.
كان بإمكان كاسترو المضي في الخيار السهل، وأن يكون دمية بديلة من باتيستا بيد "اليانكي" الأميركي، ولكنه فضَّل البقاء مع الجمهور الذي تعتبره الإمبراطورية في الشمال متسخاً، وحصد معه المحصول كاملاً في مزارع قصب السكر، وحصد معه المعرفة الطبية والاجتماعية الجديدة. هل أبصر مارادونا في كلّ كأس يرفعه انتصاراً طبقياً، كما في كل جولة ناجحة لكاسترو في صدّ حصار أميركي؟ هل كان انتصار نابولي بعينيه انتصاراً جنوبياً، كما كوبا؟ ربما!
لذلك كلّه، من الإجحاف اختصار تعبيرات دييغو في دعمه خيارات كاسترو وتشافيز، وكرهه الشديد للولايات المتحدة، كتعبير عن الامتنان فقط! مارادونا رقص فرحاً إلى جانب هوغو تشافيز في التنديد بزيارة جورج بوش إلى القارة اللاتينية، ورقص فرحاً بتأسيس التحالف الاقتصادي البوليفاري في مواجهة اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. ولم تقتصر علاقته على كاسترو وتشافيز، وإنما امتدت إلى مادورو وموراليس ولولا دي سيلفا في البرازيل.
بتعبيراته البسيطة العفوية، اعتبر موت كاسترو ضربة تنس عنيفة في الصدر، تماماً كما سأل كاسترو يوماً: "كيف نجح بوش الابن"، فسمع الإجابة: "بإرهاب مافيا ميامي"!
بعد موجة الاحتجاجات المصنّعة أميركياً في فنزويلا، كتب دييغو: "إن كانت فنزويلا بحاجة إلى جنود، فأنا أتطوّع للدفاع عنها من الإمبريالية".. ومع كلّ مشاكله الصحية، ربما لم يكن يصلح جندياً، كما أنه لا يصلح للعودة إلى الملاعب، ولكن في كل الأحوال، ما جمعه بكلّ هؤلاء هو الغناء على الإيقاع نفسه للأغنية اللاتينيّة:
"لن تشتروا الريح، لن تشتروا الشمس، لن تشتروا المطر، لن تشتروا الدفء، فنحن الّذين نمتلك البحيرات والأنهار"!