أبعد من حق العمل
انفجر الشارع الفلسطيني غضباً في مخيمات اللجوء في لبنان بعد إصدار وزير العمل اللبناني قرار ضبط العمالة الأجنبية وما تبعه من خطواتٍ تنفيذيةٍ على الأرض طالت العمّال الفلسطينيين في لبنان، في خطوةٍ تُعدّ الأولى من نوعها في السياق والإخراج والأداء والتوقيت... إذ لم يسبقها أيّ تحضير أو حوار أو شرح وإعلان... وفي توقيتٍ حَرِجٍ بالنسبة للقضية الفلسطينية برمّتها.
لقد تعاطى وزير العمل اللبناني مع ردّة الفعل الفلسطينية باستهجانٍ واستخفافٍ مُتذرِّعاً بحماية العمالة الفلسطينية ومُتسلِّحاً بنصّ قانون العمل اللبناني وتعديلاته في العام 2010 (المادتين 128و129). مُستخدِماً الصلاحيات الممنوحة له كوزير (في التعقّب والعِقاب، لا في استشراف الحاجات والظروف وإيجاد الحلول).
رغم كل المُناشدات الفلسطينية واللبنانية الشعبية والرسمية خرج الوزير على الإعلام عدَّة مرَّات مُتمترِساً خلف قراره، يحمل في يُمناه نصّ قانون العمل (المُلتبِس وغير القانوني في جوهره) وفي يُسراه سيرة وعجز وزارات العمل المُتعاقِبة ومن خلفه رئيس حزبه وجمهور وإعلام لم يخلع بعد عباءة الحرب الأهلية.
أوحى لنا كقدِّيس، بأنه ما يُريد من ذلك إلا تطبيق القانون الذي يصبّ في مصلحة فلسطين وعمّال فلسطين.
وبدل أن يقوم بدوره كمحامٍ مُتمرِّسٍ في إعادة النظر بنصّ القانون وتصويب شوائبه، أخذته العزَّة بلعب دور رجل البوليس في أدائه كما في مقالة كتبها في جريدة الأخبار اللبنانية في الأول من آب لهذا العام، أغفل معالي الوزير عَمْداً عدم تناسُب قرارات وزارات العمل وقوانينها ذات الصِلة مع الشخصية القانونية للفلسطينيين في لبنان والذين يحملون صفة لاجئ هُجِّر قَسْراً من أرضه الواقعة تحت الاحتلال (فلا هو أجنبي يحتاج إجازة عمل ولا هو يستطيع المعاملة بالمثل).
لرجل قانون يتعاطى السياسة نقول التالي:
أولاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (لبنان من أوائل الموقّعين على الديباجة). ولما كان من الضروري أن يتولّى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمد إلى التمردّ على الاستبداد والظلم.
ثانياً - المادة 6: "لكل إنسان في كل مكان، الحق بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية".
ثالثاً - المادة 14: "لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتّع به خلاصاً من الإضطهاد".
رابعاً-المادة 23: "لكل شخص حق العمل وفي حرية اختيار عمله وفي شروط عمل عادِلة ومُرضية وفي الحماية من البطالة".
خامساً - بروتوكول الدار البيضاء للعام 1965: "يُعامِل اللاجئ الفلسطيني معاملة مواطني الدول العربية المُضيفة مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفلسطينية".
إن نظرة سريعة على مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبروتوكول الدار البيضاء 1965 المُنبَثق عن القمّة العربية ذات الصلة يحسم من دون أيّ جدل تعارُض قانون العمل اللبناني ومواده وتعديلاته مع الحقوق المشروعة للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
إذن عن أيّ قانون يتحدَّث وزير العمل؟
نحتاج العودة بالتاريخ إلى الوراء لنفهم ما يجري، نستعيد معاً بعضاً من الماضي القريب والبعيد بعناوين مُختَصرة:
الاحتلال ومفاعيله وآثاره المادية والمعنوية، الثورة الفلسطينية المُعاصِرة، الهوية الوطنية، الصراع الطبقي في لبنان والمنطقة، العباءة الطائفية، الفساد، غياب الديمقراطية، الاضطهاد والفقر، العسكرتاريا، حروب لبنان وتداعياتها، حروب المنطقة، مدريد، أوسلو، القمم العربية، صفقة القرن، ملتقى البحرين... ألخ.
منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج الثورة الفلسطينية من بيروت بدأت القضية الفلسطينية تخسر (بالنقاط) مقوّمات دعمها وصمودها وانعكاس ذلك على كل تفاصيل الحياة الفلسطينية في الداخل والشتات، غير أن أكثر المُتضرّرين كان اللاجئون الفلسطينيون في لبنان...
ما قبل ذلك ولظروفٍ عدّة استطاع الفلسطيني التأقلم مع الحياة في لبنان بكل مُتطلّباتها وبكل نواقصها، أغفل عن عَمْدٍ وعن ضعفٍ السعي لمكانة تليق بإنسانيته وهويته الوطنية، في حين استسهل المستوى الرسمي اللبناني التعاطي الأمني المُطلق اليد في الشأن الفلسطيني وأخرج الفلسطيني من فضاء الحرية والنضال من أجل القضية إلى فوضى السجون الكبيرة المُسمّاة بالمخيمات الممنوعة من أي شيء وكل شيء يحفظ إنسانيتها وهويتها الوطنية. يئس الفلسطيني حتى من اليأس وأمعن الجميع في سلبه مُبرّرات وجوده، ونسوا وتناسوا عن قَصْدٍ وغير قَصْدٍ جيناته البشرية القابلة للضغوط، لكنها غير قابلة للانكسار.
في التوقيت والأداء والخلفية أتت إجراءات وزير العمل اللبناني على جسد ما عاد يحتمل مزيداً من الألم، وما عاد بمقدوره الاستمرار بنصف حياة ونصف موت...
إنه أبعد من حق العمل
إنه الحق بالهوية...
إنه الحق في الحياة وبكل تفاصيلها المُثيرَة والمُملّة.