تحديات مخرجات قمة أنقرة

منصّة أستانة رغم تحقيقها إنجازات عسكرية في السابق ودخولها مرحلة سياسية اليوم، مازالت غير مُتماسِكة في موقفها من حلّ الأزمة السورية، والمُتابِع بشكلٍ حقيقي لتصريحات زعماء الترويكا يُدرِك تماماً أن قيادات هذه الدول مُتمسِّكة بأستانا نتيجة ضرورة الحاجة ورغبتهم في التصدّي للهيمنة الأميركية ، لذلك ستبقى أية مخرجات رَهْن مصالح والتزام هذه الدول وبخاصةٍ تركيا.

منصّة أستانة مازالت غير مُتماسِكة في موقفها من حلّ الأزمة السورية (أ ف ب)

للمرة الثانية تنجح منصَّة أستانا بتحقيق خرقٍ في الأزمة السورية، هذه المرة تمثّل في الشقّ السياسي عبر الإعلان الواضِح والصريح حول التوافُق على قوائم أعضاء اللجنة الدستورية خلال القمَّة الخامسة لزعماء أستانا والتي استضافتها أنقرة، بعدما تمكَّنت هذه المنصَّة في السابق من التوصّل إلى تحقيق خَرْقٍ عسكري من خلال تحديد مناطق خَفْض التصعيد والتي ساهمت بتقلّص نفوذ الإرهاب على مستوى الخارِطة الجغرافية السورية.

فمن المُلاحَظ أن خروج الدخان الأبيض والأجواء الإيجابية التي سادت اجتماعات القمَّة وفق وصف الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لم تكن وليدة اللحظة أو بناء على توافقاتٍ آنيّة، ولكنها كانت نتيجة مُتغيّرات ومواقف وسلوكيات أرخت بظلالها  لحدوث توافقات بحدودها الدنيا خلال هذه القمَّة:

1.التقدّم العسكري السريع الذي حقَّقه الجيش العربي السوري بدعمٍ من سلاح الجو الروسي في تحرير ريف حماه الشمالي وأجزاء من جنوب ريف إدلب، الأمر الذي أدّى إلى سقوط وتهاوي الخطوط الأمامية والأساسية للتنظيمات الإرهابية وعدم جدوى تحصيناتها على مرّ السنوات السابقة.

2. مُسارَعة المجموعة المُصغَّرة حول سوريا للاجتماع مع المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا "غير بيدرسون" في جنيف الخميس الماضي، بهدف محاولة عرقلة مخرجات هذه القمَّة والعودة إلى الضغط الأممي لإحياء مسار جنيف على حساب أستانا، وبخاصةٍ أن واشنطن لمست نتائج هذه القمَّة قبل انعقادها نتيجة عاملين: الأول التوافُقات والتفاهُمات الروسية التركية التي حصلت في اجتماع بوتين أردوغان بعد تحرير مدينة خان شيخون، العامل الثاني الاقتتال والانقسام الحاصِل بين التنظيمات الإرهابية وبخاصةٍ قيادات النصرة.

3. تأكيد كل من وزيري الخارجية والدفاع الروسيين على تطوّراتٍ إيجابيةٍ تشهدها الجغرافية السورية، فالأول أكَّد على اقتراب انتهاء الحرب وبقاء بؤَر توتّر محدودة، والثاني أشار إلى عودة الأمور إلى طبيعتها في مُعظم الأراضي السورية.

4.الإجراءات السورية التي استبقت القمَّة وتمثَّلت في تمديد هدنة ثمانية أيام رغم انتهاء مدّتها، وافتتاح معبر أبو الظهور لخروجٍ آمِنٍ للمواطنين السوريين واحتمالية  تزايُد فَتْح المعابر خلال الفترة القادمة، على غرار ما حصل أثناء تحرير شرقي حلب، وصدور مرسوم العفو رقم 20 لعام 2019 والذي يُعتَبر الأوسع والأشمل منذ بدء الحرب عل سوريا، وتضمّنه العفو عن الفارّين الداخليين والخارجيين، ما يؤكّد تمسّك الدولة السورية بالخيارالسلمي ودعوتها للمُسلّحين السوريين المتواجدين في إدلب لتغيير اصطفافهم، قبل بدء معركة الحَسْم ضد التنظيمات الإرهابية ، والتي أكَّد الرئيس الروسي استعداد بلاده لتقديم كافة أشكال الدعم للقيام بها إلى جانب الجيش السوري.

5.الزيارة الخاطِفة والسريعة للمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف ولقاؤه الرئيس الأسد، وهذا كان يُشير إلى إطلاع الجانب الروسي للقيادة السورية على قائمة الأسماء والحصول على موافقتها على أية مبادرة روسية إيرانية من شأنها تقريب وجهات النظر بين سوريا وتركيا، وهذا ما يُفسِّر ربما تأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني على أهمية اتفاق أضنة لعام 1998 لحماية السيادة السورية وتأمين الأمن القومي التركي، وما يُفسِّر في الوقت ذاته غياب استخدام مُصطَلح "المنطقة العازِلة أو الآمِنة" من قِبَل التركي واستبدالها بمُصطَلح (ممر السلام).

6.المُتغيّرات والمواقف الإقليمية تجاه سوريا وتجلَّت أولاً بعودة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مُكبَّلاً من موسكو،  وثانياً الوضع المُتأزِّم لتركيا على المستوى الداخلي، وثالثاً أبعاد تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي قبل القمَّة بأيامٍ عن أن الإرهاب كانت وظيفته تدمير الدولة السورية، ومثل هذا التصريح يؤكّد أن شيئاً ما تقوده موسكو والقاهرة لإعادة العلاقات العربية مع سوريا وهو ما طالب به بوتين في مؤتمره الصحفي.

ولكن في الوقت ذاته هذا التفاؤل والإيجابية في التصريحات لم تستطع إخفاء التناقُضات التي ظهرت ما بين الترويكا الضامِنة، فالتناقُض في اختلاف تحديد المجاميع الإرهابية ، والتناقُض في الهدف من إعادة اللاجئين ومصير شرق الفرات يُشكّلان جزءاً أساسياً من التحديات العملية إلى جانب مروحةٍ من التحديات الأخرى التي تنتظر ملفات أستانا:

أولاً: مدى التزام التركي بتعهّداته التي أعلنها سواء في ما يتعلّق بوقف الدعم عن المجموعات المُسلَّحة، وتشكيل اللجنة الدستورية ومُحارَبة الإرهاب وإعادة اللاجئين طوعاً من دون إعادة استثمار ملفّهم الإنساني لأهدافٍ سياسيةٍ أومادية.

ثانياً: موقف ومصير المجموعات الإرهابية ذات النهج القاعدي، فهي تبدو أنها أصبحت الخاسِر الأكبر في ظلّ عدم أيّ تصريح مباشر من قِبَل الرئيس أردوغان حول إدلب وتسرّب بعض المعلومات التي تؤكّد حصول خلاف ما بين  تركيا وقيادات النصرة، ورفض الأخيرة مطالب أنقرة بالانسحاب من الطريقين الدوليي  (M4,M5) والإصرار الروسي والإيراني بدعم الجيش السوري في عملياته للقضاء عليها، الأمر الذي يجعل هذه المجموعات بين ثلاثة خيارات:
* الانتقال نحو الحاضِنة والغطاء الأميركي، كبديلٍ عن الداعِم التركي.
*الانسحاب نتيجة الخسائر التي تلقّتها أو قد تتلقّاها في قادِم الأيام باتجاه مناطق سيطرة ما يُسمَّى قوات درع الفرات وغصن الزيتون، وحصول اشتباك بينها وبين المجاميع التابعة لتركيا لبَسْطِ النفوذ، من دون إغفال احتمال قيامها بعملياتٍ عدوانيةٍ وانتقاميةٍ داخل تركيا.
* رضوخها للمطالب التركية بالانسحاب وإعادة توظيفها في عملياتٍ عدوانيةٍ تركيةٍ مُحتَملة ضد "قسد"، أو نقلها نحو مناطق توتّر أخرى على مستوى المُحيط الإقليمي.

ثالثاً: السلوك الأميركي الرافِض لأية تطوّرات تدعم  متانة منصّة أستانا ولا تصبّ في سياق خدمة أجنداته، وبالتالي فإنه سينتهج أحد ثلاثة مسارات من شأنها عرقلة ما تمّ الاتفاق عليه في قمَّة أنقرة:
- المسار الأول: العودة إلى التأثير في المشهد العسكري الإدلبي عبر تصفية القيادات القاعدية المُقرَّبة من تركيا وإعادة احتوائها لعدم انصياعها للتفاهُمات الروسية التركية، وضمن هذا المسار قد تلجأ الإدارة الأميركية نحو زيادة العقوبات الاقتصادية على تركيا، وإلغاء أو اختصار لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان أثناء انعقاد الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
- المسار الثاني: تعطيل عمل اللجنة الدستورية التي تمّ الاتفاق على قوائم أعضائها ما بين الترويكا، أما عبر الضغط الأميركي على المبعوث الدولي إلى سوريا لتغيّر مسار عملها، أو عبر المُطالبة بحصَّة القوى الكردية وميليشات "قسد" بتمثيلٍ يوازي حجم سيطرتها الميدانية انطلاقاً من العرقلة وليس الرغبة في التمثيل، وهذا برز مؤخّراً في مُطالبة مُستشار ما يُسمَّى بالإدارةُ الذاتية الكردية أنور اليحيى "بضرورة مشاركة الإدارة الذاتية في صوغ الدستور مُعتبراً أن استبعادهم سيخلّ بالعقد الاجتماعي".
- المسار الثالث: أن تُقدِم واشنطن على تقديم بعض التنازُلات لأنقرة حول ما يُسمَّى المنطقة العازِلة لإثارة "لُعاب الأخيرة" ودفعها إلى التنصّل من التزاماتها. 
* أما التحدّي الرابع فهو اختصاص ونطاق وآليات عمل اللجنة، وهنا قد نشهد كِباشاً في تفسير عمل اللجنة، فدمشق مع حلفائها تستند إلى مخرجات الحوار الوطني في سوتشي لعمل هذه اللجنة ، والمُتمثّلة بإدخال تعديلاتٍ أو إصلاحاتٍ على الدستور الحالي، بينما واشنطن والمجموعة المُصغّرة تعتمد (جنيف-1) كمرجعيةٍ في تفسيرها، لذلك قد تُصرّ على وضع دستورٍ جديدٍ يتضمَّن انتقالاً سياسياً للسلطة.

منصّة أستانة رغم تحقيقها إنجازات عسكرية في السابق ودخولها مرحلة سياسية اليوم، مازالت غير مُتماسِكة في موقفها من حلّ الأزمة السورية، والمُتابِع بشكلٍ حقيقي لتصريحات زعماء الترويكا يُدرِك تماماً أن قيادات هذه الدول مُتمسِّكة بأستانا نتيجة ضرورة الحاجة ورغبتهم في التصدّي للهيمنة الأميركية ، لذلك ستبقى أية مخرجات رَهْن مصالح والتزام هذه الدول وبخاصةٍ تركيا.