جردة حساب
عندما بدأت الاضطرابات في بعض الدول العربية، وما رافقها من تدخّلات خارجية إعلامية وسياسية ومالية وعسكرية، تعاملت روسيا معها بقَدْرٍ من الحياد والتوازن، فلم تُعلن عن تأييدها أو مُعارضتها، لكنها أكَّدت ضرورة الاستقرار الداخلي فيها.
خلال فترة الأربعينات من القرن الماضي، بدأت كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي تحلان تدريجياً في علاقاتهما ونفوذهما في المنطقة العربية، مقابل تراجُع النفوذ الأوروبي، فأخذ عصر جديد يحلّ بصورةٍ سريعة، هو عصر الحرب البارِدة بين قطبين عالميين جديدين، هما الاتحاد السوفياتي والدول التي تدور في فلكه (حلف وارسو)، والولايات المتحدة الأميركية والدول التي تدور في فلكها (حلف الأطلنطي).
عملت الولايات المتحدة الأميركية على بلورة سياستها في الشرق الأوسط عن طريق التدخّل المُباشر في المنطقة العربية، وخصوصاً الدول الخليجية ذات المخزون النفطي الهائِل، فأنشأت قواعدها العسكرية فيها، وأدخلت شركاتها النفطية إليها، لتستحوذ على المنابع النفطية وتسيطر عليها.
أما السوفيات، فقد عملوا لاحِقاً على دعم تطلّعات الشعوب والدول العربية، ومُساندتهم في حقوقهم، والوقوف معهم أمام المحافل الدولية، وخصوصاً خلال مرحلة حُكم خروتشوف، الّذي تطلَّع إلى الحصول على أصدقاء جُدُد في العالم، ممَّن يتطلّعون إلى مقاومة الاستعمار والخلاص منه وإقامة اقتصاد مُخطّط.
كانت التوازُنات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، ولنصف قرن، واضحة، فخارطة العالم سهلة بين مناطق نفوذ أميركية وأخرى سوفياتية، وخطوط التماس واضحة، والوكلاء المحليّون معلومون، لكنَّ الولايات المتحدة الأميركية حسمت سباق التسلّح لمصلحتها وانهار الاتحاد السوفياتي، وأصبحت تُسابق نفسها ممتلكةً ترسانةً عسكريةً غير مسبوقة، واقتصاداً قوياً ومُعولَماً، دخل معه النظام العالمي العصر الأميركي.
وأصبحت الأزمات الدوليّة تنتظر رأياً أميركياً أو دوراً أو تدخّلاً أو حتى تجاهلاً، وهيمَن الظلّ الأميركي على كلّ مكان في كلّ الأزمات، بدلاً من تعزيز التنظيم الدّوليّ مُمثّلاً بالأمم المتحدة وهيئاتها ومُنظَّماتها ودعم أدوارها، وهو ما أدّى إلى خَلْخَلَة التوازُنات العالميّة والإقليميّة.
مع نهاية ثمانينات القرن الماضي، شهدت المنطقة العربية تغلغُلاً إضافياً للقوى العُظمى داخل الدول العربية بعد قيام العراق بحربه على إيران. ولذلك، حملت بداية التسعينات تبدّلاً وتغيّراً في المشهد السياسي العالمي بصورةٍ مُتسارِعةٍ في العالم، وكان له الأثر الأكبر في المنطقة العربية ضمن تحوّلات مُتلاحِقة ساعدت على زيادة هائلة في التدخّلات الخارجية في شؤونها الداخلية في مختلف مفاصلها.
وساعدت التحوّلات الدوليّة بعد انتهاء الحرب البارِدة على ظهور مفاهيم جديدة، ترتكز على إعادة رَسْمِ المنطقة العربية وفق قواعد دولية جديدة لا تخرج عن سيطرة الدول الكُبرى على الدول الأقل شأناً منها، وبرزت الحاجة عند دول الشمال إلى ضرورة وجود مفاهيم أمنية جديدة في سياساتها الخارجية تتلاءم مع طبيعة التحوّلات الدولية الجديدة، فالشرق الأوسط والدول العربية مليئان بالصِراعات العسكرية، كما أن الدول العربية من أكثر دول العالم فقراً، على الرغم من ثرائها غير المحدود، وتبلغ الأميّة فيها نِسَباً عالية، وتكاد الديمقراطية تكون معدومة في معظم دولها، وهو ما يُشكّل المصدر الرئيس للفوضى.
وبسبب امتلاكها القوَّة العُظمى، منحت الولايات المتحدة الأميركية نفسها الحقّ في إعادة تشكيل الشرق الأوسط والبحث في مصير الأنظمة الحاكِمة فيه، فعملت على وضع سياسة جديدة للمنطقة بما يخدم مصالحها. وسُرعان ما بدأت بعملية التبشير بالنظام العالمي الجديد وأطروحاته، إذ شكّل الشرق الأوسط، وتحديداً البلاد العربية، المنبر المُباشر الذي اختير في اللحظة المناسبة، أيّ لحظة اشتداد تمزّق المنطقة العربية وازدياد وَهْنِها.
وبذلك استأثرت الولايات المتحدة الأميركية بكل ما أنتجته حرب الخليج الثانية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، من أجل إعادة ترتيب المنطقة العربية والعالم.
وفي مطلع القرن الحالي، واجه النظام الدوليّ تحديات عدَّة، أهمّها انتشار ظاهِرة الإرهاب، فعملت الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات تنسجم مع تطلّعاتها وطموحاتها لتفرض ما أرادته عبر التهديد أو من خلال استخدام القوَّة، سواء العسكرية أو الاقتصادية، ضد مَن لا يتفّق معها، فتدخّلت في الشؤون الداخلية للدول الأضعف، وابتعدت عن الشرعية الدولية، ما أدَّى إلى خلق بيئةٍ مُمهّدة لتنامي تأثيرات الفاعلين من غير الدول، فضلاً عن تغيير أشكالهم ومضامين تأثيراتهم، ومن ذلك تنظيم "القاعدة" و"داعش"، وحتى الفضائيات وشبكات التواصُل الاجتماعي والبحثي التي لها من الملامِح والتأثيرات في الدولة ما هو أكثر تعقيداً وانتشاراً، بحيث باتت تُنافِس الدولة وقوَّة مُوازية لها.
لقد فرضت الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث أيلول/سبتمبر على العالم مفهومها الخاصّ للإرهاب، وجعلت منه مفهوماً عالمياً وحيداً، وعلى جميع الدول أن تقتنع به وتُشارِك في تبنّيه، حتى الدول الحليفة لها.
وانتقلت استراتيجيّتها في مُحارَبة الإرهاب إلى العدوانية والقفز على كلّ شرعية دولية، لتقود الانقلابات، وتغيِّر أنظمة الحُكم كما تشاء، وتُبيح الاغتيالات والتدخّل المباشر في سيادة الدول واستقرارها، وتصنّف الدول إلى "دول محور الشرّ ودول محور الخير"، مُعتمدةً في تنفيذ رؤيتها على القوَّة، فهي لا تقرّ بسياسة الاحتواء وبتوازُن القوى وبالقوانين الدولية، وتقوم سياستها على تغيير النظام الدولي، وهو ما همَّش دور الأمم المتحدة. وبذلك، تحقّقت الدعوة الأميركية التي وعدت بتحقيقها.. الفوضى الخلاَّقة.
لقد خاضت الولايات المتحدة الأميركية عشرات الحروب في القرن الماضي، وارتكبت عشرات المجازر بحقّ الإنسانية خلال تاريخها، فأبادت شعوباً بأكملها، كالسكّان الأصليين للقارة الأميركية، وتبنَّت الانقلابات، وحاصرت دولاً وجوَّعت شعوبها، وروَّعت سكان "فيتنام"، وكادت تفجِّر أكثر من مرة حرباً عالمية ثالثة (كوبا– إيران)، وقتلت مئات الآلاف من العراقيين والأفغان، وتسبَّبت في انهيار دول بتدخّلاتها السياسية والعسكرية، كما في ليبيا والصومال.
كما غضَّت نظرها عن ارتكاب تنظيم "داعش" أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ بحقّ البشرية، وعن عمليات تسهيل مروره ودخوله عبر تركيا وبعض دول الجوار، وعن مدِّه بالسلاح والمال والتدريب.
ومع تصاعُد المدّ الروسي الجديد بعد صعود فلاديمير بوتين، أصبح تقاطُع مصالح القوى العالمية أمراً واقعياً ومؤثّراً بشكلٍ سلبي في حال التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، فالقوى العالمية المُنقسِمة ستؤدِّي حتماً إلى تأجيج الصراعات المُستفحِلة في المنطقة، ما يمكّننا من وصف الصراع الروسي-الأميركي في المنطقة بأنه مُحرِّك التوازُن.
عندما تولّى الرئيس بوتين الرئاسة في العام 2000، لم تكن روسيا بأفضل حال. لذا، كان مُدرِكاً أنّ استعادة روسيا لمكانتها الدولية أمر صعب إنْ لم يكن مُستحيلاً، لأنها تتطلَّب أولاً بناء دولة قومية قوية قادِرة على حماية أمنها من التهديدات الداخلية والخارجية.
ولذلك كانت فترة رئاسته الأولى هي فترة بناء الدولة. وقد نجح في ذلك بعد أن حوَّل السلطة إلى المركزية الشديدة، رغم فدرالية الدولة، ونجح في استثمار موارد روسيا الهائلة من النفط والغاز الطبيعي في تحسين الأحوال المعيشية للمواطنين، وتسديد جميع ديون الدولة، وإعادة إحياء المؤسَّسة العسكرية الروسية، بعد أن ألغى وثيقة الأمن القومي الروسي للعام 1993. كما عمل على إعادة روسيا من جديد إلى الساحة الدولية بقوَّة.
وتُعدّ العلاقات الروسية-العربية من أهم مُنطلقات السياسة الخارجية الروسية. وظهر الدور الروسي واضحاً في كل المواقف والقضايا في منطقة الشرق الأوسط. ساعدته على ذلك المُتغيّرات التي شهدتها المنطقة منذ العام 2003. حينها، بدأت المنطقة تشكّل القاعدة التي ستنطلق منها قواعد النظام العالمي الجديد وفق مصالح الدول الكُبرى، وأصبح السِباق بينها على مُمارسة الدور الأبرز في المنطقة العربية واضحاً، وهو ما استوجب على السياسة الروسية "الراغِبة في أن ترسِّخ لنفسها مكاناً في تشكيل الأقطاب الدولية الكُبرى" أن تتحرَّك في المنطقة العربية لتصبح شريكاً أساسياً للدول العربية.
وعندما بدأت الاضطرابات في بعض الدول العربية، وما رافقها من تدخّلات خارجية إعلامية وسياسية ومالية وعسكرية، تعاملت روسيا معها بقَدْرٍ من الحياد والتوازن، فلم تُعلن عن تأييدها أو مُعارضتها، لكنها أكَّدت ضرورة الاستقرار الداخلي فيها.
وفي بداية الأزمة الليبيّة، ذكرت روسيا أن ما يحدث هو حرب أهلية، ورفضت الاعتراف بـ"المجلس الانتقالي" الليبيّ في البداية، مُعلنة أنَّ الوضع الليبي لا يزال غامِضاً، إلى أن وافقت على قرار مجلس الأمن رقم 1970، ولم تستخدم الفيتو ضد القرار رقم 1973 كموقفٍ وسط، ثم أدركت الخديعة الَّتي وقعت فيها من قِبَل دول "الناتو" في مُخالفة القرار الأممي وضرب ليبيا وإسقاط نظام الحُكم فيها بالقوَّة.
أما في حال الملف السوري، فترى روسيا أنّ سوريا حجر زاوية في أمن منطقة الشرق الأوسط، وأنَّ عدم استقرار الوضع فيها أو نشوب حرب أهلية، سيؤدِّي إلى تهديد الأمن الإقليمي وزَعْزَعة استقراره، وأن التدخّلات التي تقوم بها دول غربية وعربية في شؤونها الداخلية غير شرعية، والقَصْد منها القضاء على نظام الحُكم فيها.
وبذلك، أصبحت روسيا الفاعِل الأول والمؤثّر الرئيس في الصراع في سوريا، وفي القضاء على الإرهاب، الذي دارت الشكوك حول فعاليّة الأسلوب الذي تتبّعه الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية لمُكافحته والقضاء عليه، فالتزمت موسكو بدعمها السياسي والدبلوماسي والعسكري لسوريا، ومنعت بذلك التفرّد الأميركي في تغيير أنظمة الحُكم بطُرُقٍ غير مشروعة وإسقاطها.
وبذلك، أدارت روسيا مُجريات الأحداث السورية، في تحدٍ واضحٍ وعالي المستوى للدول التي أرادت إجراء تغيير جيوسياسي على الأرض السورية، ومن ذلك رفضها تحويل مجلس الأمن إلى مكانٍ لممارسة الهيمنة الدولية.