خدعة لن تمر

لم يمرّ التطبيع في ذروة قوة العدوان، وهو لن يمر مع بداية تراجعه الاستراتيجي وانحداره التاريخي. لعل بعض العرب المنخرط في وهم "التطبيع" يتحسّس رأسه قبل فوات الأوان.

  • خدعة لن تمر
     يطرح "التطبيع" لمزيد من التفكيك والشرذمة على ما بات معروفاً

وتحدّثني عن التطبيع! أليس لكل المسائل شروط وحدود دنيا! هل ترك الاستيطان الصهيوني في فلسطين "شعرة معاوية" لفتح الباب على احتمال "التطبيع"؟ 

منذ أواسط القرن التاسع عشر، بدأت الرحلة الاستيطانية الصهيونية لفلسطين، وما هي إلا عقود قليلة حتى بدأت الاعتداءات على السكان الآمنين، المقيمين في أرضهم منذ أن كانت، وصولاً إلى النكبة التي ارتكبت فيها المجازر، وهدمت فيها البلدات والقرى والمدن، وتهجّر مئات الآلاف، وتواصلت الاعتداءات بدعم أجنبي لاحقاً، ولم تتوقّف لحظة، وما فتئنا نسمع اعتداءات صهيونية بحق الفلسطينيين كل يوم. 

فعن أي "تطبيع" تحدثني، والكيان الصهيوني الغاصب قام من أجل وظائف محددة! فعدا عن قيامه على قاعدة عدوانية وحشية، كان المطلوب منه أداء دور أبعد من فلسطين، وأوسع من الدائرة الفلسطينية، فقد كان من مهماته الحفاظ على تجزئة الأمة، وضرب كل محاولة تغييرية وحدوية، والتدخل في الاعتداءات عليها، كما حصل في حرب السويس 1956، ثم قيامه بالحروب ضد العالم العربي، فكانت حروب العام 1867 و1973، واجتياح لبنان. وما انفكت الاعتداءات تقوم بصورة دائمة، ومن دون هوادة، بخرق أجواء، وقصف مواقع، وعدوانية لا تتوقف.

وتأتي حاملاً "التطبيع"، فمن يصدّقك! 

لطالما أشارت كل الدلائل التاريخية إلى استحالة "التطبيع" بين اليهود الصهاينة والعرب. أما أن تظهر الفكرة في تبادل زيارات وبعض العلاقات بين السلطات الرسمية الصهيونية المحتلة لفلسطين وبعض العرب الخليجيين، وربما الشمال أفريقيين، فقد كانت الخطوات ملتبسة وهادفة إلى أمر ما آخر لا علاقة له بـ"التطبيع"، كأن يكون ذراً للرماد في العيون، وحرف الأنظار عن حقائق معينة، أو طرح موضوع لشق الصف الوطني في وقت غير متناسب مع طرح الفكرة. 

وكمثال على ذلك، طرحت أفكار عن شعار تحرير فلسطين كلها من النهر إلى البحر، كما طرحت إشكالية أية سلطة تلي التحرير، وكيف يتم التوفيق بين العرب واليهود الصهاينة، وما مصير اليهود بعد التحرير. 

كلها أفكار وشعارات طرحت، أدت إلى تباينات وتجاذبات في الساحة الفلسطينية، وكانت بمثابة مضيعة للوقت، وتكريسٍ للانقسامات، والتهاء عن قضايا حساسة بنقاش عقيم في الوقت غير المناسب. 

في سياق كهذا، يطرح "التطبيع" لمزيد من التفكيك والشرذمة على ما بات معروفاً من السياسات الاستعمارية تاريخياً، لكن أسباباً كثيرة تدفع الإنسان إلى كشف لعبة "التطبيع"، فمسار الحروب العدوانية جلي، وخطه واضح بما لا يدع فرصة للتحدث به.

 وما جرى منذ بدايات الاستيطان وحتى النكبة، وما بعدها من اعتداءات وحروب، تصنف الموقف الصهيوني بأنه لا يريد حرباً دائمة، فهو لا يستطيع شنّها، ولا يريد سلماً دائماً، فيفقد دوره راعياً لمصالح الاستعمار الذي جاء به، ومحافظاً على التجزئة، وزاجاً شعوب المنطقة في حروب متواصلة منعت قيامه وتطوره. وأبرز مواقف رفضه للسلام، رفضه التسوية التي وقعت في العام 1994، رغم ما تضمنته من بنود إذلال للفلسطينيين والعرب عامة.

وفي الأبحاث عن دور الكيان الصهيوني، من المعروف أن المسيطر على الاستراتيجية الصهيونية هو تيار متشدد لا يرغب في التعايش مع الآخرين. إنه شكل من الأقلية اليهودية الخائفة من الاندماج بالغير المختلف، رغم أنه لم يطرح أي مشروع لتشكيل هذه الأقلية وطناً يتعايش فيه اليهود مع الآخرين من الفلسطينيين. 

فأين يقع "التطبيع" في توجّه كهذا وذهنيّة كهذه!؟

ما حدث في التسوية التي وقعت في العام 1994 في اتفاقية أوسلو، أن التيار الصهيوني العالمي المتشدد ترك اللعبة تأخذ مجراها على أيدي من وصفوا، زوراً وبهتاناً، بـ"المعتدلين الحمائم"، أمثال رابين، وبيريز، وباراك، وسواهم، وهم من قادوا الحروب على فلسطين، وشاركوا في مجازرها، لكن الأدوار الدولية الغربية الملحقة بالصهيونية المتشددة لم تكن تسمح بأن يمضي اتفاق أوسلو 1994، فكانت عملية اغتيال رابين. وباغتياله، أُجهضت التسوية، لتؤكد استحالة التعايش مع عدوانية مفرطة لم تعرف الاعتدال والتعايش مع الآخرين ولم تطرحه في حياتها.

أُسقطت تسوية أوسلو على يد التيار الصهيوني المتشدد، وخلَف الراحل رابين بنيامين نتنياهو، ممثل التيار الصهيوني المتشدد منذ ذلك الحين، والذي لم يغب عن السلطة إلا فترات قصيرة. إنها إرادة التيار العالمي المتصهين، الذي أكد، برفضه "أوسلو"، لمن تراخى إيمانه بحدة الصراع مع العدو، أنه لا يمكن أن يقبل بالتعايش مع العرب، وأن ما يريده هو إبقاء المنطقة في حالة صراع وتوتر واستنزاف لمقدرات شعوبها.

في المحاولات التي يقوم بها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، مستهدفاً دول آسيا، خوفاً من نهوضها، ومساعيه لاستدراك ذلك النهوض لمنعه، لم يترك الغرب وسيلة تفريق وتمزيق ومشاريع توتير وحروب، وتشكيل منظمات إرهابية، لإبقاء المنطقة في حال من الضعف والتفكك. وقد أدخل مؤخراً لعبة "التطبيع"، وهي مرفوضة إسرائيلياً في الأساس، ومتناقضة مع تركيبة الكيان ودوره، لتكون مادة جديدة في عمليات التفرقة الجارية في الصف العربي. 

ومن بديهيات الأمور أن تتجاوب بعض أنظمة التبعية مع عنوانه الجديد، "التطبيع"، والذي لن يمر، لانتفائه مع التركيبة الإيديولوجية والثقافية للصهيونية، قبل أن تسقطه المقاومة الرافضة له ولوجود الكيان الغاصب.

لم يمرّ التطبيع في ذروة قوة العدوان، وهو لن يمر مع بداية تراجعه الاستراتيجي وانحداره التاريخي. لعل بعض العرب المنخرط في وهم "التطبيع" يتحسّس رأسه قبل فوات الأوان.

اغتصبت فلسطين في يوم النكبة، وفي يوم القدس العالمي إحياء لقضية فلسطين في نفوس كل المقاومين، وبين اليومين تاريخ نضال وتضحيات.. في زمن القدس، تغطية خاصة حول فلسطين والقدس، ومحاولات التطبيع المستمرة، التي بدأت تأخذ بعداً أكثر مباشرة ووقاحة.