سقوط القسطنطينية وإعادة توزيع الثروة في العالم
من خلال دراسة الطرق التجارية العالمية في القرن السادس عشر، نلاحظ مسألة مهمة جداً، وهي أن كل القوافل التجارية من أوروبا والعالم كانت تتقاطع مع العالم الإسلامي.
-
فتح القسطنطينية أدى إلى جلوس القادة الأوروبيين للتفكير بطرق بديلة للقوافل التجارية الأوروبية للوصول إلى الشرق
اختلف علماء التاريخ في تفسير الأسباب التي أدّت إلى تراجع العلوم الإسلامية، والتي قادت في ما بعد إلى أفول الحضارة الإسلامية بشكل كامل، إذ يتَّضح غروب الحضارة الإسلامية، وإن حاول البعض إنكار ذلك، في عدم القدرة حتى الآن على الإتيان بمبدعين من أمثال ابن سينا، والرازي، والبيروني، والطوسي، وابن النفيس، وابن الشاطر، وغيرهم من العلماء المسلمين الّذين أأأثروا المكتبات العالمية، واعتبرت أبحاثهم واكتشافاتهم انطلاقة لمعظم العلوم التي تطورت في ما بعد.
أحد التفسيرات التي تبنّاها علماء التاريخ، والتي تحمل في طياتها ربما طابعاً استشراقياً معادياً للإسلام، يعود إلى النقاش الذي دار في أوساط العلماء المسلمين حول تبني فكر الإمام الغزالي وتقييد العقل، على حساب فكر الإمام ابن رشد الذي يدعو إلى تحريره. طبعاً، لا يتسع المقام هنا للخوض في فكر الإمام الغزالي الذي يعتبر فكراً تصوفياً، وليس مسألة بحث علمي، كما ظنَّه البعض.
ثمة تفسيرٌ آخر تحدَّث عن الغزو المغولي وتدمير مدينة بغداد، تاج الحضارة الإسلامية، في العام 1258. ولا تخفى على أحد الروايات التاريخية التي تحدثت عن بشاعة هذا الغزو، والمجازر التي ارتكبت إبانه، وما إلى ذلك من تدمير للمكتبات ومدارس العلم.
هذان التفسيران سقطا من خلال الأحداث التاريخيَّة اللاحقة التي أشارت إلى ظهور العديد من عباقرة العلماء المسلمين، من مثل الجزري، وعبد اللطيف البغدادي، وابن البيطار، والعردي، والطوسي، والشيرازي، والنيسابوري، وابن الشاطر، فإذا كان الإمام الغزالي سبباً في تراجع العلوم في الحضارة الإسلامية، فكيف ظهر هؤلاء العلماء بعد وفاته؟ وكيف تم بناء أشهر مرصد صنع في العالم الإسلامي في مدينة مراغة، والذي انتهى بناؤه بعد عامين من سقوط بغداد في العام 1260؟
إذاً، ماذا حدث؟
بالرجوع إلى القرن السادس عشر الميلادي، بدأت تظهر العديد من العلوم الأوروبية التي بُنيت على نظرياتٍ واكتشافاتٍ لعلماء مسلمين، وهو ما قاد المفكر جوزيف نيدهام إلى اعتبار أن الحضارات الإسلامية والأوروبية والصينية كانت على المستوى العلمي والحضاري نفسه تقريباً في ذلك القرن، وهو ما قاده أيضاً إلى طرح سؤال: كيف تطوَّرت العلوم في أوروبا فقط، وبدأت بالتراجع في الحضارتين الإسلامية والصينية؟
من خلال دراسة الطرق التجارية العالمية في القرن السادس عشر، نلاحظ مسألة مهمة جداً، وهي أن كل القوافل التجارية من أوروبا والعالم كانت تتقاطع مع العالم الإسلامي، ونحن نعلم بشكل لا يدعو إلى الشك أنَّ ازدهار التجارة يؤدي بالضرورة إلى زيادة التبادلات الثقافية، وتطور العلوم، والحصول على رسوم وضرائب من تلك القوافل التي من شأنها أن تخلق فائضاً مادياً للبلاد التي تمرّ منها.
بالرجوع قليلاً إلى الوراء، وخصوصاً الحدث التاريخي المهم في العام 1453، عندما تقدمت الجيوش العثمانية بقيادة السلطان محمد الفاتح إلى قلب أوروبا، والذي انتهى بفتح مدينة القسطنطينية، أدى هذا الحدث، ولأول مرة، إلى جلوس القادة الأوروبيين للتفكير في تجارتهم، وفي كيفية تأمين الموارد اللازمة لهم، وتكوين بعض الأفكار لاكتشاف طرق بديلة للقوافل التجارية الأوروبية للوصول إلى الشرق.
كان الحلم الأوروبي في إيجاد طرق بديلة مقدمة لحدوث الخطأ التاريخي الأكثر حظاً للأوروبيين في ما بعد، عندما ظنَّ المستكشف كريستوفر كولومبوس أنه وصل إلى الهند عندما وصل إلى إسبانيولا في أميركا اللاتينية، وكان ذلك هو السبب، ربما، وراء تسمية السكان الأصليين للبلاد المكتشفة بالهنود الحمر.
مقامرة هذا المستكشف في سلوك طرق لم تكن معروفة للعالم في ذلك الوقت، أدت إلى انقلاب كبير في اتجاهات الطرق التجارية، فبعد أن كانت الطرق التجارية من أوروبا تمر بالعالم الإسلامي، أصبحت تذهب عبر المحيط الأطلسي إلى أميركا، ومن ثم عبر المحيط الهادئ إلى آسيا.
بعد اكتشافات الطرق التجارية الجديدة، أصبح العالم الإسلامي خالياً تقريباً من القوافل التجارية التي تمر عبره، وهو ما وضع الدول الإسلامية في مأزق مالي كبير، قاد إلى عدم قدرتها على تمويل مدارسها ومعاهدها العلمية، وحتى جيوشها.
في المقابل، كانت أوروبا قد بدأت عصراً جديداً سُمي بعصر الاكتشافات، والذي تحول في ما بعد، وبسرعة هائلة، إلى عصر من الاستعمار، بعد أن أصبح لأوروبا فائض هائل من الثروة، بسبب إحضار أطنان الذهب والفضة من البلاد الجديدة المكتشفة، وتسخير سكانها الأصليين كعبيد للأوروبيين.
تراجع العلوم الإسلامية بسب العجز الذي تسبب به اكتشاف الطرق التجارية الجديدة أدى إلى تخلف الإمبراطورية العثمانية، واقتصار اقتصادها على النشاطات الزراعية، وافتقاره إلى المصانع المواكبة لبريطانيا العظمى وفرنسا، وحتى روسيا، "ونتيجة لذلك، كان النمو الاقتصادي للإمبراطورية ضعيفاً، والفائض الزراعي الذي كانت تنتجه، كان يذهب لسداد قروض الدائنين الأوروبيين". ويقول مايكل رينولدز الأستاذ المشارك في دراسات الشرق الأدنى في جامعة "برينستون": "إن الموارد البشرية للإمبراطورية العثمانية، مثل الموارد الطبيعية، كانت نسبياً غير متطورة"، مضيفاً أن هذا يعني أن الإمبراطورية كانت تعاني من نقص في عدد الضباط العسكريين المدربين تدريباً جيداً، وفي عدد المهندسين والكتاب والأطباء والمهن الأخرى أيضاً.
أما أوروبا، فقد أدى فائض رأس المال لديها إلى أن يفكر القادة الأوروبيون في الاستثمار لإنتاج العلوم الحديثة، بعد إدراكهم أن العلم كان سبباً في اكتشافهم الطرق الجديدة، ولكنه استثمارٌ تسبب، ولأول مرة، بتسليع العلم واحتكاره، بعد أن كان أداة للوصول إلى الحقيقة، بحيث يكون مقتصراً على الأوروبيين، من خلال قوانين الملكية الفكرية التي فرضها الأوروبيون. إضافة إلى ذلك، أدى وجود الفائض في رأس المال المادي والبشري إلى أن تقوم أوروبا بتجهيز جيوشها والبدء بحملاتها الاستعمارية في العالم، وإلى أن يعاني العالم حتى الآن من آثار الحقبة الاستعمارية الأوروبية.
ربما لا نستطيع أن نوجّه اللوم إلى الدولة العثمانية أو إلى أي دولة أخرى عن هذا الانحدار في إنتاج العلوم والمعرفة في العالم الإسلامي، وخصوصاً أن أوروبا أنتجت تصوراً آخر للعلم والمعرفة في القرن السادس عشر كان قائماً على احتكاره، ولكن الأساس في صعود نجم الأوروبيين بدأ في الفترة التي سيطرت فيها الدولة العثمانية على القسطنطينية، وهذا ربما يقودنا إلى الوقوف مطولاً أمام المغامرات التوسعية وحبّ السيطرة الذي تكون نتائجه كارثية في بعض الأحيان، كما حدث في الطرق التجارية التي كانت تعبر بلاد المسلمين.