كيف يستفيد لبنان من تجربة بيلاروسيا؟

على الرغم من عدم التشابه بين حالة لبنان وحالة دول وسط أوروبا وشرقها من ناحية التنافس بين الروس والغرب، فإنَّ لبنان كدولة حاجز يمكن أن يتّعظ من تجارب الدول الأخرى.

  • محتجون في بيلاروسيا بوسط مينسك في 16 آب/ أغسطس 2020 (أ ف ب - أرشيف)
    محتجون في بيلاروسيا بوسط مينسك في 16 آب/ أغسطس 2020 (أ ف ب - أرشيف)

كما العديد من دول وسط أوروبا وشرقها، وبسبب لعنة الجغرافيا والتاريخ المليء بالحروب والتنازع والصراع بين الإمبراطوريات الكبرى، تجد بيلاروسيا نفسها اليوم، كدولة، حاجزاً بين كل من روسيا والغرب.

منذ القدم، وفي ظلّ التنافس العالميّ والإقليميّ، تشكّل المساحات الجغرافية بين دولتين أو محورين متصارعين مساحة إضافية للتنافس، عبر السيطرة على المساحات الجغرافيّة واختراقها. ولعلَّ التطوّر في أنماط الحروب جعل الاحتلال العسكري لتلك المناطق أقلّ قابلية، مع اعتماد وسائل أخرى مختلفة، منها الثورات الملوَّنة، للإطاحة بالحكام وإحلال النفوذ السياسي، من خلال تغيير الطبقة السّياسية الحاكمة.

وهكذا يتأثر الفضاء الجغرافي بقوة بهذا التنازع، فعدم سيطرة أي قوة على هذا الفضاء أو العداء مع القوتين المتنازعتين، وبقاؤه من دون حماية، يجعل تلك المنطقة تدخل في "فراغ استراتيجي"، ما يفاقم الصراع عليها، وتكون أكثر عرضة للتدخلات الخارجية في شؤونها.

وهكذا، يمكن أن نعرّف الدولة الحاجز بأنها دولة ضعيفة في نظام إقليمي محكوم بصراع تنافسي شديد بين قوتين إقليميتين، تكون عرضة للتجاذب بينهما بسبب موقعها الإقليمي. والعامل الأهم الذي يحفظ لها استقرارها هو الاستتباع لدولة منهما أو التوازن الإقليمي بينهما.

وبالعودة إلى بيلاروسيا، فإنها تشهد اليوم، كما أوكرانيا في العام 2014، ثورة شبابية ملوّنة تهدف إلى تغيير سياسي داخلي، وتخفي في طياتها صراع نفوذ بين الغرب وروسيا على تلك الدول.

كانت العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا جيدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً بعد وصول لوكاشينكو إلى السلطة في العام 1994. وقد وقع البلدان معاهدة "اتحاد" في العام 1999، تنصّ على توحيد السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية والمالية... على أن تحتفظ كل منهما بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها وعلمها وشعارها.

وبعد مجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا، اقترح على بيلاروسيا الانضمام إلى الاتحاد الروسي، الأمر الذي رفضه لوكاشينكو. وعلى الرغم من الترغيب الروسي، بقي الحال على ما هو عليه. وبعد أزمة أوكرانيا في العام 2014، شعر لوكاشينكو بالتهديد، كما معظم دول شرق ووسط أوروبا التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي سابقاً، فعمل على محاولة اتّخاذ سياسات قومية، وتشجيع الابتعاد عن الهوية الروسية لصالح الهوية القومية البيلاروسية، ما أدى إلى تأزم العلاقات بينهما، لكن سرعان ما عادت إلى طبيعتها في العام 2017.

ويبدو أن الخيارات التي اتخذها لوكاشينكو ابتداءً من العام 2019 ولغاية اليوم، ساهمت في تعميق الخلاف بين بيلاروسيا وموسكو، وخصوصاً بعد إعلانه أن بلاده "تتوق إلى إقامة علاقات أفضل مع حلف شمال الأطلسي"، وأنه "يتعيَّن على بيلاروسيا تغيير اتجاهها طوال الوقت، لأنها تقع في وسط أوروبا". 

تمّ تتويج هذه الانعطافة للوكاشينكو بلقاء مع جون بولتون في العام 2019، ثم بزيارة قام بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى مينسك في شباط/فبراير 2020، وتمّ الاتفاق على شراء الطاقة من الأميركيين.

وهكذا، يبدو أنَّ لوكاشينكو لم يتَّعظ من دروس كل من جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014)، وتغاضى عن كل دروس التاريخ والجغرافيا، وساهم في إدخال بلاده في دائرة "الفراغ الاستراتيجي"، الأمر الذي فاقم النزاع والتنافس بين كلٍّ من أوروبا وروسيا على بيلاروسيا، علماً أنّ من الصعب جداً تخلّي روسيا عن بيلاروسيا والسماح بتوجه قادتها نحو الغرب، وذلك لأسباب عدّة، منها الأمن القومي الروسي نفسه، ومنها تجديد الاتفاقية الأمنية (التي تنتهي صلاحيتها في العام 2021)، والتي تسمح للقواعد العسكرية الروسية بالتواجد في بيلاروسيا.

أما لبنانياً، وعلى الرغم من عدم التشابه بين حالة لبنان وحالة دول وسط أوروبا وشرقها من ناحية التنافس بين الروس والغرب، فإنَّ لبنان كدولة حاجز يمكن أن يتّعظ من تجارب الدول الأخرى المصنّفة في هذا الإطار، وهذا يعني أن أمامه أحد الخيارات التالية في سياسته الخارجية: 

- التحوّل إلى دولة تدور كلياً في فلك أحد المحاور المتصارعة، وهذا صعب جداً، وسيسبّب صراعاً كبيراً، وقد يؤدي إلى حرب أهلية.

- اعتماد "الحياد"، وهو أمر صعب جداً أيضاً، لأن الحياد يفترض أن تكون الدولة قوية عسكرياً لتفرض على الآخرين احترام حيادها، وأن تعترف الدول المتصارعة بهذا الحياد (وهو أمر أساسي)، وهذا يعني أنَّ الدول المتصارعة يجب أن تستفيد من ذلك الحياد، أي أنه يحقق لها مصالحها، وهو أمر يدفعنا إلى الخيار الثالث، أي توازن القوى مع الحفاظ على السيادة اللبنانية.

وهكذا، يبدو أنَّ لبنان محكوم بخيار سياسة "توازن القوى"، أي توازن النفوذ بين محورين، بحيث تُحفظ مصالح كل منهما، وهما بالأساس يتمتعان بنفوذ وحلفاء في الداخل اللبناني، وبسبب التنوع الثقافي اللبناني، الذي يجعل من الصعب - بحسب التجارب اللبنانية - السير بالبلد وفق صيغة غالب ومغلوب.