"النسكافيه" والسياسة.. كوب واحد!
مدمنو "الأشياء" حينما يحاولون التخلّي عنها يعيشون الألم المبرح، المدمنون يدركون جيداً صعوبة التخلّي والتغيّر. لأن المعصم حينما يعتاد السوار يرى نفسه قبيحاً بدونه، والعين التي اعتادت الكحل تظن أنها عمياء لولاه. وكذا الإنسان الذي لا يعرف التعامل مع بنات أفكاره، بحاجة دوماً إلى من يفكر عنه، ويأخذ قرارات عنه. بحاجة إلى أن يكون بين القطيع دوماً!
تختلف معايير الإبداع في المجالات التجارية عن المجالات العملية الأخرى. فالهدف من التجارة توخي الربح بالمقام الأول، عكس المجال الفني مثلاً، لأن خيارات الأول في إيصال كيس الأرز إلى المستهلك قليلة، بينما الفنان خياراته متعددة ومساحة الإبداع متسعة لديه.
هدف التاجر الرئيسي أن يكفي حاجات السوق الضرورية من أطعمة وغيره، وهذا العمل الطبيعي الفطري بدأ مع الإنسان القديم وتطور مذ كان يفتش عن مصادر تبقيه حيّاً، لكنّه مع ذلك لم يخرج عن طور التفكير المنطقي للإنسان، الذي يدفعه الى البحث عن طرق تمكّنه من تأمين حاجياته الأساسية، لكن ماذا عن الأشياء التي لم تكن في سُلّم الأولويات فأصبحت أولوية؟ ماذا عن المنتجات التي لم تكن موجودة ولم نكن نعرفها أساساً وأصبحنا ندمنها؟ في العالم التجاري هناك ما يعرف بـ "خلق الحاجة" أو Create demand وهي الحالة التي يتمّ فيها اختراع منتج جديد وطرحه في السوق ليصبح مع الوقت ضروري لحياة المستهلك وربما من أولوياته كـ القهوة المحلاة مثلاً، من منا يستطيع أن يُكمل يومه حتى وقت الظهيرة من دون أن يشرب "النسكافيه"؟
لسنا بصدد الكلام عن التجارة وأهميتها اليوم، لكن "اختلاق الحاجة" هذا موضوع يستحق التفكّر فيه قليلاً. تخيّل معي، خبراء يجتمعون ويضعون خطة لاختراع "شيء" يصبح حاجة ديموميه لنا، يجعلون منّا محبين لهذا المنتج، أوفياء له، نطلبه باستمرار، يجتاحنا شعور بالانتماء لمكوناته، نريده، نبحث عنه. هم من يخلقون حاجتنا لهذا "الشيء" أي أنهم صنعوا هذه الحاجة فينا، خلقوها فينا؟ سحرٌ يؤثر؟ ألا توافقني الرأي بأن مسألة اختراع الحاجة هذه فيها شيئاً من الخطورة؟ الموضوع مشابه جداً لما يحصل في دهاليز السياسة، مع فارق أننا نكون على مسرح أهل الساسة مُستهلَكين غير مُستهلِكين!
مسألة الاختراع هذه تشبه إلى حدّ كبير عملية "تصنيع" زعيم. نعم، "تصنيع" بالمعني الكلّي الكلمة. ألا تعرف كيف يُصنع الزعماء؟ بسيطة. إليك معي:
المكونات:
- الكثير من الشعارات الرنانة.
- وعود مطاطية.
- زرع الفتنة.
- الاستئثار بالسلطة. من الأبن الى حفيد الحفيد.
- المصلحة الشخصية أولاً.
- بيع الكلام.
- الالتصاق بالكرسي.
- اللعب على نقاط ضعف الشارع.
الطريقة
المقام هنا لا يتسع لذكر كلّ المكوّنات المطلوبة كي تحضّر زعيماً وتتناوله بعدها على مائدة مبادئك وتدسه في مناهج أطفالك. عموماً الطريقة لتحضير زعيم أيّ كان تصنيفه (زعيم حي/طائفة/وطن/تاريخ) بعد حضور جميع المكونات بسيطة جداً. عليك أولاً أن تشكر الرجل على أيّ عمل يقوم به، أيّا كان. لنفترض مثلاً أنك كنت محظوظاً وقال لك صباح الخير؟ عليك أن تشكره، مراراً. لا بأس أن أخبرت جيرانك أنك تلقيت تحية منه اليوم. اصنع منه هالة. لا تشكك في أيّ كلمة يقولها، هو لديه علاقات ويعلم ما لا تعلم. لا تفكر. هو يفكر عنك. اشكره فقط. عبّد الطريق أمام منزلك؟ حسناً امدحه، امدحه كثيراً، علّق يافطة تمدحه فيها، لا، علّق صورة له، واكتب تحتها اسمك لينالك من الرضا نصيب.
ابدِ اعجابك برأيه ان جمعتك به ندوة أو لقاء، لا يهم أن اعجبك رأيه فعلاً. يجب أن يعجبك بكل الأحوال. علّم أطفالك أن هذا له فضل علينا، ولولاه لضعنا، وتلاشت الطائفة، والبلد. إزرع حب الزعيم في قلوبهم ليدافعوا لاحقاً عنه بالقلم، والرصاص إن لزم الأمر. ارسم شعار له على الحائط، لا يهم إن كان حائط مدرسة أو بيت، مدهون أم لا، لا بأس. ضغ شعار له أو أي رمز يدل عليه. ضع له صورة فوق سريرك وصورة فوق مكتبتك... وصورة في رأسك. لا تؤاخي إلا من يشاركك حبه، لا تزوج ابنتك "صهر" من غير حزب ولا يعترف بأن حزبك الأقوى، فـ "العرق دساس" وأنت لست مضطراً لأن تخاطر بأحفادك. اجعل من زعيمك خطاً أحمر بإمكان أيّ أحد أن يدهس فيك أيّ شيء عداه. بهذه الطريقة تخلق "حاجة" لك تسميها لاحقاً "زعيماً".
لا يمكنك أن تعيش من دونه، تدمن هواه، تصادر حقوقك باسمه، يسرق فتساويه بآخرين، المهم ألا تهتز صورته أما عينيك وعينا أطفالك، وبدل أن يكون الوطن هواهم، يصبح الزعيم الهوى.
هذا الأسلوب النيّر يمكّنك أن تصنع زعيماً من لا شيء، زعيماً من تمر، كلما جعت أنت وأطفالك، تناولت ذكراه!