ديون مفتعلة على فنزويلا
الملفات الطارئة الأكثر حساسية هي الإخراج الفوري للملايين من الناس من دائرة الفقر والجهل، كانت الثورة بحاجة إلى نتائج سريعة وملموسة، فوجّهت الحكومة البوليفارية عوائد النفط إلى البرامج الاجتماعية من الإسكان (حملة القضاء على بيوت الصفيح) ، والتعليم (مشاريع محو الأميّة) ، والعلاج (المراكز الطبية بالتعاون مع كوبا) ، والمواصلات (مشروعات تحديث شبكة المواصلات العامة) بدلاً من توجيهيها إلى مشاريع واستثمارات اقتصادية تدرّ الأرباح على المدى الطويل.
مع أن ديون فنزويلا في عهد الرئيس الأسبق كارلوس بيريز (1989م – 1993م) كانت قد تراكمت أيضاً، وخنقت الاقتصاد الفنزويلي، وأعلن حينها الرئيس بيريز حال الطوارئ أمنياً والتقشّف اقتصادياً، وترافق مع كل ذلك أقسى مشاهد القتل في الشوارع، إلا أن شيئاً لم يستفزّ أصحاب القرار في البيت الأبيض لتحريك مؤسّسات الإقراض العالمية إلى كاراكاس وتطويقها ، ولم تتفاعل جماعات حقوق الإنسان لوقف شلاّل الدم في الشوارع في أحداث أقسى بعشرات المرات مما تمر به فنزويلا اليوم من اضطرابات، ولم تطالب بإطلاق سراح سجين سياسي واحد، لا لشيء إلا لأن الطريق إلى ميرفوليس كانت مُسهّلة تماماً للكاوبوي في الشمال. وكان سداد فنزويلا لدينها لا يعني للولايات المتحدة أكثر من ال 17 تريليون دولار التي تدين بها، ولا ندري إن كانت تنوي سدادها أصلاً، ولا يعني شيئاً كإعلان الحكومة الأميركية إفلاسها من عام إلى آخر.
الديون التي جاء بها كارلوس بيريز، كانت التراكم الطبيعي للاستجابة المستمرة لوصفات المؤسسات المالية، وأحداث 1989م في فنزويلا كانت نتيجة للدّين والوصفة، أما ديون الدولة في عهد نيكولاس مادورو، فحال أخرى..
مع انتصار الثورة البوليفارية عبر صناديق الاقتراع عام 1997م، لم تكن ديون الدولة الموروثة أولوية رئيسة في أجندة تشافيز - مع الإشارة إلى استعادة الدولة القدرة على السداد من جديد-
الملفات الطارئة الأكثر حساسية هي الإخراج الفوري للملايين من الناس من دائرة الفقر والجهل، كانت الثورة بحاجة إلى نتائج سريعة وملموسة، فوجّهت الحكومة البوليفارية عوائد النفط إلى البرامج الاجتماعية من الإسكان (حملة القضاء على بيوت الصفيح) ، والتعليم (مشاريع محو الأميّة) ، والعلاج (المراكز الطبية بالتعاون مع كوبا) ، والمواصلات (مشروعات تحديث شبكة المواصلات العامة) بدلاً من توجيهيها إلى مشاريع واستثمارات اقتصادية تدرّ الأرباح على المدى الطويل.
لاحقاً وبعد سنوات، كان من المتوقّع أن تكون تخفيضات أسعار النفط السعودية- الأميركية حجراً يضرب عصفورين؛ روسيا في حضورها في الشرق، وفنزويلا، في نظامها المُعادي للولايات المتحدة وتحريضه للجنوب ضدّها. أما روسيا فحماها اقتصادها المنوّع واحتياطاتها المالية من الصدمة، وحافظت على موقعها وموقفها في صراعات الشرق، وأما فنزويلا، فتورّطت في الديون بسبب انهماكها في البرامج الاجتماعية، وعدم تدويرها استثمارياً لرأس المال.
حالتان مختلفتان، مُتناحرتان حتى النهاية من الديون الفنزويلية: أولى نتجت من سياسات الاقتراض والانصياع للمؤسّسات المالية فنتج منها فقر وقتل، وثانية نتجت من دعم برامج اجتماعية للحماية من الفقر، فاستهلكت الوفرة النقدية للحكومة في ظلّ تراجع أسعار النفط. أولى لا يعلّق الغرب على نتائجها، وثانية يحاول الغرب صناعة نتائج جديدة في الدولة والمجتمع عبرها.
ديون فنزويلا هي الورقة الأخيرة في يد الغرب، فبعد أسعار النفط، كان تأليب رجال الأعمال لوقف الاستيراد وضخّ البضائع إلى السوق السوداء، ورفع نِسَب التضخّم، وبعدها كانت شعارات "حقوق الإنسان" التي كان بيريز أولى بها، وبعدها كانت العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية.
لا ترغب الولايات المتحدة في أن تتمكّن فنزويلا من سداد الديون المترتّبة عليها، هي ترغب في إسقاط النظام هناك ومحاسبته على "جرائمه"، التي تمثّلت في البرامج الاجتماعية الداخلية التي قلّصت أرباح الشركات الأجنبية، وعلى تأميمه لبتروليوس دي فنزويلا لدعم تلك البرامج، وعلى تحريض القارّة اللاتينية على الانحراف من اليمين إلى اليسار (وهذا ما حدث عكسه أثناء أزمة فنزويلا، أن بدأ الغرب في محاولات إعادة القارة إلى اليمين من جديد، ونجح في أكثر من موقع إلى الآن).
من الممكن أن تكون الحكومة البوليفارية قد "أخطأت" في الإسراع إلى نجدة الناس، ونسيت خصمها في الشمال، ونسيت أن تنوّع في اقتصادها، احترازاً للحظة مُشابهة من هبوط أسعار الطاقة، ومن الممكن أن تكون الحكومة قد أخطأت عندما لم تتبنَ بنفسها العمليات التشغيلية والاستيراد بدلاً من القطاع الخاص ورجال الأعمال، ولكن الخلل الأكبر يبقى في كيفية قراءتنا – نحن شعوب الشرق والجنوب - لمعنى الدَّين ولمعنى السداد.
عدد من الهيئات المدنية، ومنها منظمة جوبيلي الجنوب، ترى أن ديون الجنوب للشمال هي ديون غير مُستحقّة، فمنها ما يعود إلى حُقَب استعمارية، ومنها ما صُرِف إلى أنظمة فاسدة، لم تنفقها في أية خطط تنموية، والجهات المانحة مسؤولة هنا عن غياب سياسات المتابعة كالتي تتبعها البنوك مع الأفراد مثلاً، وقد سبّبت هذه الديون انهيار البنى التحتية للمجتمعات المُقترِضة، ومن هنا تطالب هذه المنظمات بتأسيس محكمة دولية لتحكيم الديون، وأخرى تطالب بإسقاطها، وأخرى تطالب أن تدفع الدول المانحة تعويضات عن تدمير البنى التحتية الناجم عن إنهاك الاقتصاد بدفعات الدّين.
يبقى السؤال: ماذا لو تخلّفت فنزويلا عن السداد ؟ ماذا لو قرّر الجنوب الامتناع عنه كلياً؟ ماذا لو قرّرت الدول المدينة أن تبدأ من نقطة جديدة في العلاقة مع الدول الدائِنة، نقطة الصفر؟.