أسرار قوّة النظام السوري
إن أي عاقل ينظر إلى النظام السوري، وكيف أدار المحنة التي ألمت به منذ سنوات طويلة، يمتلئ بالعَجَب، خاصة إذا قارناه بتلك الأنظمة الهشّة التي تسقط سقوطاً حراً بمجرد حوادث بسيطة، أو تنقلب رأساً على عقب عن كل ما كانت تؤمن به أو تمارسه. على عكس النظام السوري، الذي مهما اختلفنا معه، فلن نختلف أبداً في كونه نظاماً متماسكاً محكماً قوياً، لدرجة أن كل قوى الشر اجتمعت عليه، ولم يتأثر، ولم يتزحزح عن مبادئه قيد أنملة، بخلاف خصومه من المعارضة أو من الدول التي تموّنها، والذين يغيّرون آراءهم كل حين.
هذا ما يدعونا إلى التساؤل عن سر قوّة هذا النظام، للتعرّف على الحقيقة ـ أولاً ـ بكل موضوعية ومصداقية،ثانياً لنسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية، لا بأسمائها المزورة، ولنعتبر من كل ذلك حتى نؤسّس في بلادنا لأنظمة قوية، ليست لها القابلية للاستعمار بكل أنواعه.
ومن خلال استقراء الواقع السوري في هذه الفترة، نجد أربع نواح كان لها دورها الكبير في تماسك النظام وقوته:
أولا ـ مصداقية النظام في طروحاته: فالنظام السوري قبل المحنة وبعدها كان صادقاً مع شعبه، وقد وفّر له كل ما يمكنه من خدمات بحدود الإمكانيات المتاحة له.. وكان قبل ذلك قد وفّر لطبقة كبيرة من شعبه ـ إلا مَن شذّ منهم ـ من الوعي الصحيح ما جعلهم يفطنون للحرب الناعمة التي دُبّرت لهم.
ولهذا لم تبدأ التظاهرات إلا في تلك المناطق التي كان لها بعض الولاء لدول الخليج أو كان لها علاقة بالحركات الإسلامية.. أما المناطق الكبرى كدمشق وحلب وغيرهما، فقد كانت حاضنة قوية للنظام.. ولذلك ساهمت مساهمة كبيرة في الحفاظ عليه، واستمراريته.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النظام السوري، ومع أول بوادر المحنة كان قد دعا إلى الجلوس إلى طاولة الحوار، بل فعل ذلك، وغيّر بعض المواد الدستورية التي كانت تشكّل عقبة عند دُعاة الفتنة، وأصبح الدستور بعدها دستوراً يحمل كل مضامين العدالة التي لن تجد المعارضة أفضل منها.
لكنها لم تقبل به، لا لكونه لا يخدم مصالحها، وإنما لأن الجهات التي تموّنها، والتي لم تكن تملك دساتير أصلاً كانت هي المحرّك لها، والذي يدعوها إلى عدم قبول أيّ حوار مع النظام.
وهذا ما أعطى قوة أخرى للنظام السوري، فالقوي هو الذي يدعو إلى الحوار، ويتحدّث بلغة المنطق والعِلم والعقلانية، بينما العاجز هو الذي لا يعرف إلا لغة الهجر والسب والشتم والقطيعة.
ولهذا تمكّن النظام السوري من رمي الكرة في ملعب خصومه كما يقال، بتلك الخطابات الهادئة العقلانية التي يدعوهم فيها كل حين إلى خلع عباءة الغرب والتدخّل الخارجي، والتحوّل إلى معارضة وطنية داخلية، لا تستمد شرعيتها إلا من شعبها.
بل إنه فوق ذلك، وفي ظل المحن الكثيرة التي مر بها، أجرى مجموعة انتخابات برلمانية ورئاسية، وطالب الهيئات الدولية بالحضور والمراقبة، وطالب المعارضة بالمشاركة مع أن أية دولة في ظل هذه الظروف تحكّم قوانين الطوارئ المشددة، ولا تدع شعبها يقوم بأية حركة، لأن الأمن القومي أهم من الحرية، ومن كل شيء.
وفوق ذلك كان يدعو المتظاهرين إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتحت إشراف دولي، يضعون فيها أسماءهم، ويضع فيها الرئيس السوري إسمه، ويُترك الخيار بعدها للشعب، لكن المعارضة كانت ترفض ذلك، بل كان رؤساء فرنسا وأميركا وإسرائيل وأذنابهم من ملوك العرب، يرفضون ذلك، ويطلبون من الرئيس التنحي، وأن يخرج من اللعبة، وكأنهم يصادرون بذلك حرية الشعب السوري في اختيار من يشاء.
وفوق ذلك كله، فإن النظام السوري كان يدعو المغرّر بهم من الذين حملوا السلاح، بأن يضعوا أسلحتهم، ويلتحقوا بشعبهم، وحياتهم العادية، من غير أن يحصل لهم شيء، أو يُعاقَبوا بأية عقوبة.
وهذا كله أعطى مصداقية لهذا النظام، لأن الحق أكبر من أن يقهره الباطل، والحجّة أكبر من أن تردّها الأوهام.
ثانياً ـ قوّة الرجال الذين بُنيَ عليهم: فقوة الدولة بقوة رجالها ومؤسساتها، وقد عرف النظام السوري، ومنذ فترة طويلة كيف يختار رجاله الأكفاء في كل مؤسسة من المؤسسات، ولهذا لم نر انشقاقات مثل التي حصلت في ليبيا، فكل السفارات بقيت سورية الولاء، ومندوب الأمم المتحدة، كان هو البطل الذي استطاع أن يقهر كل قوى العدوان على بلاده.. ووزير الخارجية كان أسداً في كل المحافل الدولية.
وهكذا استمرت الدولة على الرغم من الحصار الشديد، والحرب القاسية، والتشويه الإعلامي، والتحريض الدولي.. بل إن المحنة أخرجت لنا نماذج بشرية عالية الجودة، تحتاج إلى دراسة علمية متينة.
وأولهم الرئيس السوري نفسه، والذي ادّعت المعارضة أنه هدفها الوحيد، مع أن الهدف الحقيقي هو أمن سوريا ووحدتها وسيادتها، وجعلها ذيلاً من ذيول الغرب، وحديقة خلفية لنزوات أمراء العرب الشاذّة.
وقد كان الرئيس السوري في مقدّمة الأبطال الذين ثبتوا على الرغم من كل التهديدات التي تعرّض لها طيلة هذه الفترة، لكنه لم يرضخ للتهديدات وبقي مواطناً سورياً صلباً يدافع عن بلاده، ويتحاور مع الجهات المختلفة، بل يخرج إلى الثكنات والجبهات ليعطي المزيد من المعنويات لجيش بلاده.
وقد كان في إمكانه أن يحمل ما شاء من الأموال، ويهرب إلى أي بلد من بلاد العالم، ليعيش حياته الطبيعية، مثلما فعل الكثير من رؤساء العالم الذين حصل لهم بعض ما حصل له.
لكنه كان أسداً هصوراً، لا يتزحزح، لأنه يعلم أنه إن فعل ذلك، فستنقسم بلاده، وسيهدّد أمنها، وسيطمع فيها أعداؤها..
ثالثاً ـ قوة التحالفات ومصداقيتها: فالنظام السوري منذ فترة طويلة كان يعي جيداً أن أميركا شيطان أكبر، وأنها مجرد مُقامر وتاجر، ولا تريد مصلحة الشعوب، لذلك نَفَرَ منها، ولم يُقم أية تحالفات معها، على عكس ما فعلت دول الخليج التي تحوّلت إلى أبقار حلوبة، لا تُسقي بحليبها شعبها، وإنما تُسقي به أفواه الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين، والتي لا تشبع أبداً.
وبدل تلك الوجهة تحالف مع جهات تحترم المستضعفين، وفي نفس الوقت لها عداء شديد مع أميركا، ولذلك كان التحالف معها لا يخدمه فقط، وإنما يخدمها أيضاً..
وقد كان على رأس تلك التحالفات روسيا وإيران.. فكلاهما مهدّدتان من أمييكا، وكلاهما تُعلن الحرب عليهما من طرفها، ولهذا كان استناده إليهما استناداً إلى ركن متين يؤمّن له المزيد من القوة، ويدعّمه بدعم سياسي يحميه في المحافل الدولية.
وفوق ذلك أقام تحالفات قوية مع جبهات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وكل قوى التحرّر، ولهذا كانت سنَده المعنوي بل المادي عندما احتاج إلى ذلك.. بخلاف خصومه الذين كانت تحالفاتهم مع القاعدة والنصرة وداعش، والتي زادتهم تشويهاً على التشويه الذي كانوا عليه.
رابعاً ـ ضعف خصومه وولاءاتهم المتعدّدة: وهذا من أكبر ما أعطى للنظام قوّة مضاعفة، فخصومه لم يتفقوا في يوم من الأيام في أية مسألة من المسائل، ففيهم الليبراليون المتحرّرون، وفيهم المتديّنون المتشدّدون، وفيهم مَن يريد أن يقيم علاقات مع إسرائيل، وفيهم من يريد أن تتحوّل بلاده إلى محافظة خليجية.. وهكذا كانوا مختلفين اختلافاً شديداً.
وقد حاولت كل دولة أن تلمّ شتاتهم، فلم تستطع.. ولهذا لم يستطيعوا أن يسمّوا رئيساً واحداً يمثلهم، أو ينوب عن الرئيس السوري في حال اعتزاله.. ولم يستطيعوا أن يتفقوا على الدستور الذي يحكم البلد.. بل كانت الحرب بينهم شديدة جداً، حتى مع الفصائل المتقاربة نفسها.
ونحن نشاهد على القنوات الفضائية تلك الحروب الشديدة بين داعش والنصرة، أو بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن، أو بين غيرها من الفصائل.. مع كونها جميعاً ذات توجّه إسلامي.
وهكذا كان الخلاف بين القوى السياسية التي يتهم بعضها بعضاً بالعمالة.. مع أنهم جميعاً عملاء، فكلهم يقبضون مرتّباتهم من الدول التي تحرّكهم، والتي تحوّلوا بسببها إلى مجرّد عرائس قراقوز لا إنسانية لهم، ولا قِيَم تحكمهم.