للعمالة أوجه وتاريخ
ما سقوط بغداد على يد المغول 656 هجرية، وهلاك أغلب سكانها، ودمار حضارتها، إلا بسبب التقصير والتفريط وغلبة أهل الباطل، وجميعها متعلٌق بالإخلال بالواجبات، سواء من جهة الحكّام، بنزوعهم إلى التواكل والدّعة.
قديماً وقبل أن ينتقل العرب من الجاهلية إلى الإسلام، كانوا قبائل مُتعادية مُتناحِرة، مُنقسِمة على بعضها، بين موالٍ للفرس شرقاً، وللروم شمالاً، يحشرون أنفسهم أحياناً في صراعهما المرير، من أجل سيطرة الأسياد، فيصيبها (وهي ذيولهم) من حصّة المُنتصِر قسماً، ومن حصّة المهزوم قسماً آخر، لا ناقة لهم فيه ولا جَمَل، وكانوا فوق تلك التبعية المُذلّة، يقتتلون لأتفه الأسباب، كحرب البسوس التي أوقِدت نارها، من أجل ناقة، وحرب داحس والغبراء، من أجل غشّ في سباق خيل، ويعملون جهدهم لإرضاء حلفائهم، حتى على حساب بني جِلدتهم، ولا يتحرّجون في ذكر ولاءاتهم، ويظهرونها كأنها أوسمة فخر زادتهم شرفاً، فهم في نظر الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، رعايا وعيون يحفظون حدودهما غرباً وجنوباً، ومن جانبهم ركنين وثيقين يستعينون بهما، على السيطرة والاستقواء على القبائل الأخرى.
يقول الدكتور جواد علي: (والمصالح السياسية للقبائل لا تُقيم وزناً للأخوّة والنَسَب، فإذا اختلفت المصلحة، فلا تجد القبائل عندئذ، أية غضاضة في الإنفصال عن قبيلة مؤاخية لها، لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النَسَب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها، فـ(عبس) مثلاً، تحالفت مع (بني عامر)، في حرب (البسوس) على (ذبيان)، وهي أختها، وتحالفت (ذبيان) مع (تميم) على (عبس)، مع ما بين (تميم) و(عبس) و(ذبيان) من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين (تغلب) و(بكر)، مع صلة الرحم، والقرابة القوية، التي ربطت القبيلتين الأختين، وقع كل ذلك وحدث، بسبب تغيّر المصالح، التي كانت تربط بين هذه القبائل.) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)
ولم تكن الحال في الإسلام بأحسن عمّا كانت في الجاهلية، ففي عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان الأعراب أول مَن خذله، وآخر من التحق به طمعاً ومراوغة ونفاقاً، وكانت مواقفهم المُعادية التي اتّخذوها في مُنتهى الخطورة، كانسحاب ثلث عدد المقاتلين مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في معركة أُحد (شوال سنة 3 هجرية)، ورجوعهم مع بن أبي سلول، ولم يتأخّر الوحي في فضحهم وكشف سرائرهم، فلم يغّر ذلك من سلوكهم، وواصلوا مؤامراتهم إلى أبعد مدى أمكنهم ذلك، ولا يزال حزبهم إلى اليوم يعمل، وإن اختلفت المُصطلحات وتغيّرت الأسماء، بمُقتضيات عدائهم الخفيّ للإسلام وأهله.
ثم جاء العصر العباسي، حيث كان صراع الفِرَق والمذاهب على أشدّه، في البلاد الإسلامية شرقيّها وغربيّها على حدّ سواء، بنسب متفاوتة في العنف والأضرار، وقد خلّفت آثارها السيّئة في التراث الإسلامي، ولا تزال تنفث سمومها الطائفية العقيمة إلى اليوم.
وما فرّط في الأندلس، سوى ما أصبح عليه أمراؤه (ملوك الطوائف) 422 هجرية من تفكّك وانفصال بعضهم عن بعض، استئثاراً بحُكم كل لمنطقته، وصراعهم الطويل من أجل السيطرة وبسط النفوذ، وقد بلغت بهم الحال إلى دفع الجزية للملك ألفونسو السادس، والاستعانة به على غرمائهم ومنافسيهم من بني جلدهم.
وما سقوط بغداد على يد المغول 656 هجرية، وهلاك أغلب سكانها، ودمار حضارتها، إلا بسبب التقصير والتفريط وغلبة أهل الباطل، وجميعها متعلٌق بالإخلال بالواجبات، سواء من جهة الحكّام، بنزوعهم إلى التواكل والدّعة، وإيثار الحاشية على الرّعية، والحيف في الحُكم، ومُحاباة أهل الوجاهة في المجتمع على أهل المسكنة، أو من جهة المحكومين، بركونهم إلى هؤلاء الظلًمة، وتقصيرهم في طلب حقوقهم، والتضحية من أجلها.
أنظمتنا العربية اليوم، ذكّرتنا بكل هذه الانحرافات والمصائب التي لحقت أجيالنا، وهي في مستنقعها الآسن، الذي تتخبّط فيه بين صنفين: صنف اختار العمالة أصالة فيه، ومن اختارها طمعاً في ما تدرّ عليه من نِعَم الأسياد لعبيدهم - عِلماً وأن العبودية قد أخذت طابعاً مميّزاً عما كانت عليه سابقاً، ولم تعد تُذكَر بصفتها القديمة، مُراعاة لأصول التعامل – ففي ما تعلّق بالمُتأصّلين، وذوي الباع والذراع في العمالة، وتصنيفهم العالمي مما لا يشق لهم غبار فيه، نجد دول الخليج في المُقدّمة، ومعها الملكان الأردني والمغربي، بفارق أشواط كثيرة، لا يمكن لمن تسوّل له نفسه مُجاراتها أو اللحاق بها، ولو استعان بشياطين الأرض جميعاً.
أمّا من ركب العمالة أملا في نوال شيء، وامتطى صهوتها طمعاً، فهناك جَمعٌ من الحكّام والأنظمة العربية، ممّن رضوا بالدّون، وأنسوا لقمة الذلّ والهوان، بمقابل بخسٍ رخصت به قيمة شعوبهم، كمصر، والسودان، وتونس بدرجةٍ أقلّ، ولولا موقعية حزب الله الشريف لأضفتُ لبنان إلى هؤلاء، لموقعيّة آل الحريري وفريق المستقبل منهم، وانكشاف عمالتهم لبني سعود من زمان، بإبقاء لبنان على حرفٍ من عدم الاستقرار السياسي.
الجوانب المخفيّة على شعوبنا خلال الثماني سنوات الماضية، جعلتها تعتقد أن ما حصل في تونس ومصر وليبيا وسوريا كان ثورة، ولم تلتفت إلى أن هناك أنظمة عربية أخرى، كان من باب أولى أن تندلع فيها ثورات وتزول أوّلاً، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، وهو دليل على أن الربيع العربي كان مسرحية مُحبكة الإخراج، وتصفية حسابات، وتمويه في تغيير سياسات بما يضمن بقاء تلك الدول في خيمة العمالة، في صيغة شعبية ديمقراطية.
إيعاز هنا، ومنع هناك، ومباركة هنا، وسكوت وتضليل هناك، وثورة ربيع عربي، تقودها وتموّلها أشد الأنظمة عمَالة وخضوعاً للغرب، ظهر زيفها من هذا الوجه وحده، من دون أن نتطرّق إلى اشتراك دول الغرب المُستكبِر - المُعادي للثورات أصالة وطبعاً - في مواكبتها بالتوجيه والدعاية والمباركة، زادتها افتضاحاً مساراتها المتعرّجة، المنحرفة تماماً عمّا يحصل في الثورات عادة، من استكمال المسار الثوري، وجني ثماره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لا أشك قطعاً، في أنّ ما جرى على بلداننا، كان مُخطّطاً لئيماً، اقتضى إخراج شعوبنا، من حال اليأس والقنوط بسبب سياسات حكّامنا العميلة للغرب، ودخولنا بعد ذلك طوعاً إلى باب الرضا بنفس تلك العمالة، وأشدّ منها خطراً، مغلّفة بلون الدول صاحبة الفضل - عمالة بالوكالة – في ما وصلنا إليه من إسقاط دكتاتورية فرد وأسرته، وإحلال دكتاتورية ديمقراطية زائفة، تتقاسم نفوذها ومصالحها، وتتشطّر ضرعيها أحزاب، كشفت أوراقها، وأخرى لا تزال تنتظر دورها، بإعداد ومباركة غربية.
هذا الذي رأيناه بأمّ أعيينا، تماشياً مع رغبة أعدائنا في معارضة مطالب شعوبنا، وجرّ حكوماتنا وراء رغبات الغرب في تحقيق مصالحه، حتى لو كانت على حسابنا، ونراه اليوم يقترب أكثر في تأسيس حلف أعرابي غبيّ، يستعمله يداً باطشة بإيران الإسلامية، عابثة بمستقبلها إن تمكّن من ذلك، ويبدو أن المخطط في طريقه إلى التنفيذ، وكل المؤشّرات التي بين أيدينا توحي بذلك، فشعوبنا بالنسبة للغرب مجرّد مَخبَر تجارب، ووقود لعدوان ضد إيران الإسلامية، ليس للعرب فيه مصلحة واحدة، وفيه ضرر فادِح للإسلام والمسلمين، وخدمة مجانية لأعداء الأمّة الإسلامية، فمتى تستفيق شعوبنا يا تُرى؟ أم أنها ستبقى لعبة هيّنة بين أيدي أعدائها بالأصالة وبالتبعية؟