لبنان الكبير!
النقمة الشعبية على الحُكم في تزايد مستمر، الأحزاب تدعو في السر والعلن إلى قراءة نتائج الانتخابات جيّداً وإعادة تنظيم صفوفها والوَعي اللبناني ينضج أكثر فأكثر، بينما المشاكل المتراكمة حكومة عن سلفها تزداد تعقيداً، حيثُ أصبح واضحاً لدى اللبنانيين أن الذين يحكمون البلاد غير قادرين على الحل أو أنهم في الأصل لم يكونوا جديرين بحُكم لبنان بهذه العقلية الطائفية و الحزبية الضيّقة.
نظام الحُكم في لبنان في شكله الحالي هو نتيجة ظروف حرجة مرَ بها في صراعه السياسي الحديث، بدءاً من الاحتلال الإسرائيلي مروراً بالحرب الأهلية ودخول الجيش السوري وما هو معلوم بعده، ولا يُخفى على أحد أنّ الطائفية كانت حينها أكثر ما يمكن أن يستفزّ مشاعر الناس للتمَوضُع تحت أيّ شعار يحمي وجودهم، وهذه الأحزاب هي نفسها في عقليّتها وجوهرها المُمسكة بلبنان وإنْ تغيّرت الأشخاص أو تبدّلت الوجوه أو التسميات، إنها هيمنة تفرض على لبنان نظام حكم جامد لا تغيّره الانتخابات ولا تبدّله التفاهمات ولا تعدّل عليه طاولة مفاوضات.
أحزاب تحكم طوائفها وتفرض سيطرتها على كل مقدّرات الدولة المتّصلة بالطائفة ومخصّصاتها، أحزاب مسلّحة بميزانيات ضخمة مدعومة إمَا من دول ومحاور خارجية أو من مخصّصات الدولة بعينها، كل أحزاب لبنان الحاكِمة هي أحزاب مسلّحة، ليس بالضرورة بالصواريخ والمعدّات الثقيلة بل بما يكفي لكي تفرض نفسها وإيديولوجيتها على المحيط.
ميزانيات ضخمة، قنوات إعلامية وشبكات علاقات خارجية يجعل معها السباق الانتخابي بين هذه الأحزاب وأي قوى وطنية مستقلة غير متوازن أبداً، ناهيك عن مباركة المؤسّسات الدينية لهذه الأحزاب بعينها وتزكيتها في كل استحقاق وتنصيبها المُدافع الأول عن وجود الطائفة. ولأن الكثير من إنجازات الدولة الحقيقية جاء من خلال الأحزاب نفسها متوزّعة على المناطق بالمُحاصصة سواء بنى تحتية أو مدارس أو جامعات ، فإن الوعي الوطني المناطقي صار ينظر إليها على أنها الدولة بعينها وأن الفضل في الإنماء يرجع إليها ما عزّز ولاء أبناء الطوائف لها وزاد تمسّكهم بها.
هل المفروض تغيير النظام اللبناني؟! هذه كلمة كبيرة ومعقّدة وبعيدة الحدوث. نظامَان سياسيان في لبنان يحكمان وليس نظاماً واحداً، الأول هو الدستور الذي ينصّ على حُكم ديمقراطي برلماني يُنتَخب نوابه من الشعب ويَنتَخب بدوره رئيساً للجمهورية ويُسمّي رئيساً للحكومة هذه هي الدولة بهيكليتها الأساسية، أما نظام الحكم الفعلي فأساسه الأحزاب التي أصبحت تُهَيمن بوجودها على الطوائف، وبدورها تستطيع إيصال مَن ترشّحهم إلى البرلمان وتبدأ رحلتها في الحُكم إلى الحكومة ثم إلى رئاسة الجمهورية، المهم حقيقة ليس تغيير نظام الدولة أو هيكلية حُكمها فهي من أكثر هيكليات الحُكم ديمقراطيةً في العالم.
الحل يبدأ بفصل هيمنة الطوائف على هذا الحُكم ولأن إيديولوجية لبنان الحديثة تجعل من المستحيل عزل الطوائف عن الحُكم، فتشريعها كمجلس أعلى للدولة منفصل عن تفاصيل الحُكم يُحدّد العناوين الكبرى لسياسة البلد هو الحل ، فبذلك يكون لدينا سلطتان، الأولى ممثلة بالدولة أو الحكومة ومجلس النواب يسيِّران تفاصيل الحكم للبلاد ومجلس أعلى شبيه بملكة بريطانيا أو بالوليّ الفقيه في إيران، مجلس مشكّل من مجموع الزعماء الطائفيين منفصلين بدورهم عن إدارة النظام الإداري للبلاد وبنفس الوقت يمثلون كل طوائف لبنان الفاعِلة.
لأن في لبنان أية خسارة لفريق سياسي في الانتخابات تؤدّي إلى انسحابه من الحُكم هي وقود لحرب أهلية لا مفرّ منها، وأية حكومة تُشَكَّل يجب أن تضمّ الجميع وإلا فإنَها لن يُكتب لها النجاح، بالإضافة إلى أن شخصيات الوزراء تعتمد على انتمائهم الحزبي وليس على كفاءاتهم العلمية أو العملية في عين الوزارة المسمّاة ما يجعل تشكيل حكومة أو تسيير عملها أمراً صعباً جداً وغير فعّال.
النقمة الشعبية على الحُكم في تزايد مستمر، الأحزاب تدعو في السر والعلن إلى قراءة نتائج الانتخابات جيّداً وإعادة تنظيم صفوفها والوَعي اللبناني ينضج أكثر فأكثر، بينما المشاكل المتراكمة حكومة عن سلفها تزداد تعقيداً، حيثُ أصبح واضحاً لدى اللبنانيين أن الذين يحكمون البلاد غير قادرين على الحل أو أنهم في الأصل لم يكونوا جديرين بحُكم لبنان بهذه العقلية الطائفية و الحزبية الضيّقة، إنّ القائمين على الدولة يتقصّدون ترك الملفات على حالها بما تعود لهم بمنافع جمّة عوضاً عن الظهور بمظهر القادر على الحل وإطلاق الوعود التي تبقيهم على كرسي السلطة، وما بين هذا وذاك يعيش لبنان محنة الحُكم التي آن لها أن تنتهي، لبنان البلد الصغير في مساحته لكنه مع عظمة إنسانه وُلِد كدولة" لبنان الكبير".